حتى فى داخل إسرائيل، لا يلقى اعتزام نتنياهو احتلال كامل قطاع غزة وتهجير قاطنيه تأييدًا من المستوى العسكري؛ فخلال نقاش حاد استمر 10 ساعات فى آخر جلسات المجلس الوزارى المصغر للشئون السياسية والأمنية (الكابينت)، انبرى رئيس الأركان إيال زامير فى رفض الخطة؛ وواصل تحذيره من الشروع فى احتلال القطاع، مؤكدًا أن الخطوة تنطوى على تنامى استنزاف قوات الجيش الإسرائيلي، وتعريض حياة المحتجزين الإسرائيليين للخطر. ربما تؤشر حدة النقاش داخل الكابينت على إدارة الكيان الإسرائيلى من جزر منعزلة، تتباين فيها وجهات نظر المؤسسات المعنية؛ فبينما يصر نتنياهو وعناصر ائتلافه المتطرف على تمرير خطة احتلال القطاع، تراقب الدوائر العسكرية ما يجرى بعين الريبة، وترى حتمية الخروج من النفق المظلم الذى آلت إليه الأمور فى قطاع غزة، وضرورة تفادى التورط فى مستنقعه أكثر من 22 شهرًا، خاصة أن الشروع فى استئناف العدوان، يستدعى ترتيبات عسكرية ولوجستية، ربما لم تعد قيادة جيش الاحتلال قادرة على تحمُّلها. اقر أ أيضًا | إسرائيل بين وهم النصر والانتحار السياسى رغم ذلك تشير بنود خطة الاحتلال المقترحة إلى استكمال عملية إخلاء سكان مدينة غزة بحلول 7 أكتوبر المقبل، بداعى فرض حصار على عناصر المقاومة المتبقية فى المدينة. وللتحرر من المسئولية عن السكان المدنيين فى القطاع، التفَّ نتنياهو وأعضاء الكابينت على القانون، وفيما لم يستخدموا كلمة «احتلال»، استبدلوها بكلمة «استيلاء». لكن مسئولًا عسكريًا فى تل أبيب أشار إلى أن التلاعب بالألفاظ لا يتعارض ونية نتنياهو وائتلافه احتلال كامل القطاع، موضحًا فى السياق ذاته، وفى تصريحات نقلتها «يديعوت أحرونوت»: «تنفيذ عملية الاحتلال سيجرى على مراحل، تبدأ باحتلال مدينة غزة». وفيما لم يستبعد المسئول العسكرى ذاته إمكانية وقف عمليات الاحتلال المرحلية فى قطاع غزة حال التوصل إلى صفقة، لم يوافق التقدير هوى وزير المالية المتطرف بتسلئيل سيموتريتش، الذى عارض وقف العدوان على القطاع حتى حال التوصل إلى صفقة. بينما رفض وزير الأمن القومى إيتمار بن جافير هو الآخر إرسال مساعدات إنسانية لسكان القطاع المأزوم، ما دعا نتنياهو إلى الإعلان صراحة بأن العدوان على القطاع لن يتوقف فى أى حالة. بضغط من سيموتريتش وبن جافير، وبعد اجتماع عقده فى مقر قيادة الأركان، انصاع إيال زامير لتوجيهات نتنياهو ورفاق الائتلاف المتطرف، لكن التقديرات تؤكد أن تراجع زامير أمام ائتلاف نتنياهو يعود بالأساس إلى تحسباته من زيادة الشقاق بين المستويين السياسى والعسكرى فى تل أبيب، لا سيما وأن رحيل رئيس الأركان ينذر بانهيار غير محمود العواقب. لذلك، عرض زامير على نتنياهو خيارات مواصلة العدوان على قطاع غزة، مؤكدًا أن «الجيش الإسرائيلى مستعد لتنفيذ أى قرار يتخذه مجلس الوزراء». فى المقابل، توالت ردود فعل الداخل الإسرائيلى على اعتزام نتنياهو احتلال قطاع غزة، وذهب أخفُّها إلى أنه كان يتوجب عليه التبكير بحشد شرعية دولية لعملية عسكرية جديدة فى القطاع، خاصة بعد طول أمد الحرب من شهور إلى سنوات. إلا أن أكثر ما يشغل المستوى العسكرى فى تل أبيب، هو «العمود الفقري» المزمع اعتماد إيال زامير عليه عند تجديد عدوان إسرائيل على القطاع، وفى حين تؤكد البيانات العسكرية الإسرائيلية أن قوات الاحتياط هى محور الارتكاز العملياتى لجيش الاحتلال، يشى الواقع بمشهد قاتم بين صفوف تلك القوات. وتشير التقديرات إلى عدم تمكن جيش الاحتلال من استدعاء الاحتياط بموجب المرسوم 8، الذى يستدعى حاملى الجنسية المزدوجة (إسرائيلية مع غيرها) من خارج إسرائيل، لا سيما أن هؤلاء أبلغوا قادتهم خلال الأسابيع القليلة الماضية بأنهم لن يتجاوبوا مع أوامر الاستدعاء خلال شهرى يوليو وأغسطس بسبب العطلة الصيفية. يضاف إلى ذلك الضغوطات والانتقادات الممارسة على هذه القوات من عائلاتهم، والتى ترفض تجاوبهم مع أوامر الاستدعاء، فضلًا عن تنامى انخفاض معدلات تنفيذ أوامر الاستدعاء خلال العام الجارى بأقل من 70% فى المتوسط بمختلف الكتائب. على المستوى السياسي، ترى الكاتبة الإسرائيلية آنا بريسكي، أن مخطط نتنياهو الذى بدأ بحملة تجويع الغزاويين، تفاقم إلى حد كبير فى إطار خطة احتلال كامل القطاع، مشيرة إلى أن اجتياح مدينة كبيرة مثل غزة وطرد سكانها يزيد من حدة ردود الفعل أضعافًا مضاعفة. مع تقدم الجيش الإسرائيلى فى تنفيذ الخطة، من المقرر زيادة موجة الاستياء تبعًا لذلك: إدانات، ومبادرات كالاعتراف بدولة فلسطينية، وخطوات لتقليص التعاون مع إسرائيل (رسميًا وغير رسمي: تجاريًا، وعلميًا، وثقافيًا، وإبعاد فرق رياضية عن الفعاليات الرياضية). وفى مقالها المنشور بصحيفة «معاريف»، قالت الكاتبة الإسرائيلية إن شروع نتنياهو فى احتلال غزة يأتى فى وقت لا تزال فيه إسرائيل تُضمد جراحها الدبلوماسية الناجمة عن حملة التجويع. فى واشنطن، ثمة مخاوف من أن تُعتبر هذه الخطوة تجاوزًا للخطوط الحمراء، مما يُؤجج موجةً من السُموم على وسائل التواصل الاجتماعى قد تُلحق الضرر بشعبية الرئيس دونالد ترامب. وخلصت آنا بريسكى إلى أن نتنياهو يدرك جيدًا أن ما يعتزم فعله يعد بمثابة «مقامرة كارثية»، فإذا خسر الرهان سيُعرف بالقائد الذى خاطر بأرواح المحتجزين، وترك إسرائيل معزولة. أما الذى يجهله، هو أن هذه العملية لن تؤدى إلى انكماش نشاط حماس، ولن تفضى إلى تجديد الحوار، وستخسر إسرائيل بها المحتجزين لدى حماس.