من قلب الصحراء إلى قلب العالم، ومن الحلم إلى التيقن، عبرت مصر في السادس من أغسطس عام 2015 مرحلة فاصلة في تاريخها الحديث، حين فتحت ذراعيها لا لتعبر السفن وحدها، بل يمر معها الزمن الجديد، والمستقبل الذي يليق بوطنٍ اسمه مصر.. قناة السويس الجديدة لم تكن مجرد شريان ملاحى موازٍ، بل كانت إعلانًا جريئًا عن إرادة أمة تعرف طريقها، وتملك مفاتيح الأمل، وتُدرك أن التنمية ليست أمنية تُعلق على الجدران، بل حفارات تعمل في الليل قبل النهار، وعرق جنود مهندسين، ونبض شعبٍ آمن بأن بلاده تستحق أن تكون فى الصفوف الأولى. ولم يكن لهذا الحلم أن يرى النور لولا قرار رجل تحمل المسئولية في لحظة مفصلية من عمر الوطن، الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يضع حجر الأساس فقط، بل وضع روحه فى مشروعٍ أراده رسالةً للعالم بأن مصر تنهض حين تقرر، وتنجز حين توعد، وتزرع الأمل حتى في صحراء اليأس. عشر سنوات مضت على هذا المشروع المعجزة، الذي كُتب بأحرفٍ من رمل وزمن، وسُقى بعرق رجال آمنوا بأن مصر لا تموت، ولا تنحني، بل تنبعث من كل محنة وكأنها خرجت تواً من رحم التاريخ.. في ثلاث حلقات «الأخبار» تسترجع لحظة الحلم، وترصد خطوات التنفيذ، وتتبع أثر القناة الجديدة في الاقتصاد والسياسة والوجدان. ◄ تدشين شريان الأمل فى ملحمة وطنية.. الرئيس يعيد كتابة التاريخ على ضفاف القناة بحضور ملوك وزعماء العالم حفلٌ أسطورى ضخم أعاد إلى الأذهان ذكريات افتتاح قناة السويس عام 1869، حين أعطى الرئيس عبدالفتاح السيسي، في السادس من أغسطس عام 2015، إشارة البدء بافتتاح القناة الجديدة، هدية مصر إلى العالم، إيذانًا ببدء مرور السفن العالمية في الممر الملاحي الجديد، لتُضيف شريانًا جديدًا إلى حركة الملاحة العالمية، بعد عام من العمل والجهد المتواصل، ليشهد العالم بأسره هذا الإنجاز الذى حققته مصر. مشهدٌ مهيبٌ، تزيّن بحضور آلاف المصريين من مختلف أطياف الشعب والضيوف الأجانب، إذ بدأ الجزء الأول من الاحتفال في الظهيرة بافتتاح القناة، بوصول الرئيس السيسى إلى موقع الاحتفال على متن يخت «المحروسة»، مرتديًا الزى العسكري، حيث استقلّها من الضفة الشرقية للقناة الجديدة باتجاه الشمال، ورافقه خلالها الفريق مهاب مميش، رئيس هيئة قناة السويس آنذاك، وعددٌ من ممثلي مختلف فئات الشعب، وذلك تعبيرًا عن التقدير للشعب الذي حقق هذا الإنجاز الكبير فى زمنٍ قياسي، بعقول أبنائه وسواعدهم وأموالهم. لفتة إنسانية مؤثرة شهدها الحفل، بظهور الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال مراسم الافتتاح على متن يخت «المحروسة»، وبجواره طفل مصاب بمرض السرطان، يرتدي الزى العسكري، ممسكًا بعلم مصر، وقد احتضنه الرئيس وتحدث معه فى مشهد يجسد بعمق البُعد الإنسانى للحظة، الطفل هو عمر صلاح، وكان حينها يبلغ من العمر تسع سنوات، ويتلقى العلاج في مستشفى 57357. وبالتزامن مع وصول يخت «المحروسة» إلى نقطة الوصول على الضفة الشرقية للقناة الجديدة، قدمت طائرات الهليكوبتر عرضًا مبهرًا فى سماء القناة، حاملة أعلام مصر والقوات المسلحة وأفرعها الرئيسية، فضلًا عن علم قناة السويس، بالإضافة إلى عرض جوى بطائرات الرافال و«إف-16»، وعرضًا بمشاركة عدد من الوحدات البحرية المصرية. وفي لقطة متناغمة، رافق وصول الرئيس السيسي مرور الفرقاطة البحرية الفرنسية «فريم»، إيذانًا ببدء عملها في القوات البحرية المصرية، كما مرّت السفينة «عايدة» وعلى متنها فرقة للموسيقى العسكرية عزفت بعض الأغاني الوطنية. ضيوف من ملوك ورؤساء العالم وممثلي الدول والحكومات المختلفة رسموا ملامح المنصة الرئيسية، حيث بدأت المراسم البروتوكولية للحفل بعزف الموسيقى العسكرية، واستعراض حرس الشرف، وعزف عدد من الأغاني الوطنية، بمشاركة دولية واسعة ومكثفة ضمّت عددًا كبيرًا من ملوك ورؤساء وأمراء دول العالم، منها فرنسا والكويت والبحرين والأردن وكرواتيا واليمن وتوجو والكونغو الديمقراطية، فضلًا عن رئيسي وزراء روسيا واليونان، ونائب رئيس دولة الإمارات حاكم دبي، ونائب المستشارة الألمانية وزير الاقتصاد والطاقة، ورئيس مجلس الأمة الجزائري، والمستشار الفيدرالى السويسرى للشئون الاقتصادية، وممثلين رفيعى المستوى من الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية والسنغال والولايات المتحدة. ◄ اقرأ أيضًا | فى الذكرى العاشرة لافتتاح أسرع شريان ملاحى عالمى |قناة السويس الجديدة.. بوابة مصر للمستقبل لم يخلُ الاحتفال من أسماء مصرية بارزة، فى مقدمتهم وزراء وسفراء، والمشير الراحل محمد حسين طنطاوي، والرئيس السابق عدلى منصور، والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، ورئيس الوزراء الراحل د. كمال الجنزوري، ورؤساء الأحزاب السياسية، فضلًا عن شخصيات عامة، من بينهم الراحلة جيهان السادات، زوجة الرئيس الراحل أنور السادات، وعبد الحكيم عبد الناصر، وعدد كبير من الفنانين والممثلين والرياضيين، وممثلين عن مختلف أطياف الشعب من جميع المحافظات. وشاركت أسرة الرئيس في الاحتفال بافتتاح مشروع القناة من المنصة المجاورة للمنصة الرئيسية للحفل، وذلك فى أول ظهور لها منذ أدائه اليمين فى المحكمة الدستورية، فيما جلست السيدة انتصار السيسي بجوار السيدة جيهان السادات لمتابعة وقائع الاحتفال.. ووسط هذه الفرحة المصرية الكبيرة، والحضور العربى والدولى اللافت من الملوك والرؤساء والوزراء وممثلى 121 دولة، أعطى الرئيس عبدالفتاح السيسي رسميًا شارة افتتاح قناة السويس الجديدة، بعد توقيعه وثيقة بدء تشغيل القناة، لتعبر على الفور السفن بها. ◄ السيسي وعمر.. لقاء لا تنساه القلوب في افتتاح قناة السويس الجديدة، توارى خلف مشهد الممر المائي الأسطوري قصة إنسانية خالدة، نسجت خيوطها على سطح «يخت المحروسة»، حيث أطل طفل صغير بزيه العسكري، شامخًا على ضآلة جسده، يحمل العلم المصرى بيدين غلب عليهما الضعف، ويرفع التحية فى كبرياء المقاتل، وكأنه يعلن للعالم أن هذا الممر الجديد لم يكن فقط انتصارًا هندسيًا، بل انتصارًا للحياة على الألم. كان اسمه «عمر صلاح»، طفل من مستشفى 57357، أنهكه السرطان لكنه لم ينتزع من قلبه حب الجيش، ولا من عينيه ذلك البريق الحالم بأن يصبح يومًا ما جنديًا فى صفوف القوات المسلحة. في غرف المستشفى، حين كانت الممرات تعجّ برائحة الأدوية وهمسات الأمل، باح عمر بأمنيته لزائر استثنائي، هو اللواء عصمت مراد، مدير الكلية الحربية آنذاك: «نفسى ألبس البدلة العسكرية، وأشوف الرئيس السيسي»، لم تكن أمنية طفل، بل نداء روح تستعجل الحياة. وفى يوم الحفل، كان عمر هناك، كما أراد، على ظهر «المحروسة»، إلى جوار الرئيس عبدالفتاح السيسى، يخطف الأضواء ببسالة صمته وصدق انتمائه، لم يكن مشهدًا بروتوكوليًا، بل لحظة إنسانية التقطتها عدسات العالم، فسكنت ذاكرة المصريين، قال عمر للرئيس: «الجيش المصري مصنع الرجال»، فرد عليه السيسي: «بحبك يا عمر»، وفى قلب الطفل، كان يكبر وطن لا يُهزم. ولم يكن مشهد عمر إلى جوار الرئيس عبدالفتاح السيسي مجرد لفتة رمزية، بل تجلٍ نادر لإنسانية قائد لم تغفل عيونُه عن نبض طفل يواجه المرض بشجاعة المحاربين، فقد التقط الرئيس أمنية عمر من قلب المستشفى، وفتح له أبواب الحلم على مصراعيه، ليقف معه على منصة المجد وسط زعماء العالم، لم تكن الكلمات وحدها ما جمع بينهما، بل دفء النظرة وصدق اللحظة، حين انحنى السيسي بقلب الأب قبل أن يحيى الطفل بصفته رئيسًا، لحظة قالت إن القوة الحقيقية لا تكمن فى السلاح، بل فى القدرة على احتضان الضعف، وإشعال الأمل فى قلوب أنهكها الألم. فى حديثه بعدها، عبر عمر عن امتنانه: «أنا مبسوط إنى شاركت في افتتاح القناة، الضباط كانوا طيبين، والرئيس حافظ على البلد، ربنا يحفظك يا ريس، ويحفظ الجيش ومصر، وبحبك يا مصر، ومش هاسيبك أبدًا». مرت عشر سنوات، ولم تمرّ القصة، ظل المشهد نابضًا كأنه يحدث الآن، علمٌ يرفرف، طفلٌ يحلم، وطنٌ يعبر محنه كما تعبر السفن المضيق، بثقة وقوة وإرادة لا تلين، فى قلب «عمر»، كانت قناة السويس الجديدة رمزًا للحياة، للرجولة، للأمل، ولعهد لا ينسى أن الأبطال قد يولدون بأجساد ضعيفة، لكن بأرواح جبارة.. هكذا، خُلد عمر فى الذاكرة الوطنية، كقصة من لحم ودم، قصة «جندي صغير»، وقف إلى جوار الرئيس في لحظة عبور وطن.