كأنك وضعت أيس كريم فاخر على فخارة سد الحنك كما عادات كثير غريبة أمارسها باعتياد كأننى مثلًا أقرأ الصحيفة من الوراء إلى الأمام، وأكلم نفسى بصوت عالِ بانتظام فأفك عن صدرى واسمعنى ثم أقتنع أو أرفض، أصفق أو أبصق، أغضب واوالس مع نفسى أحيانًا واجد لها المبررات، كما أننى أشاهد التلفاز بلا صوت! أقلب المحطات بين كل حينِ ، فالريموت حق أصيل من حقوق الزوجة وأنا أحفظ الحقوق، لى فى اليوم فترتان أساسيتان ساعات فى الصباح حتى مغادرتى لعملى وساعات فى السهرة الصبّاحى، وما بينهما لا أقرب المشاهدة إلا لو شدنى شىء مما يدور. ماذا! الأستاذ جورج قرداحى على الشاشة يجلس فى بذلة أنيقة جدًا ووجاهة كبيرة-والابتسامة تملأ وجهه- وسط جماعة من سائقى الشاحنات الضخمة، ما هذا يا أستاذ جورج ولماذا يا رجل؟!، أعرف أن النجم والفنان والمشهور والمذيع والعاطل والباطل جميعهم يلجأون إلى الإعلانات لما تتدهور دخولهم وأجورهم وتخفت عنهم الأضواء وتشح مواردهم، فتكون الإعلانات بابًا خلفيًا للتكسب والاسترزاق، وتقدر أجورهم فى هذه المنطقة بمنطق « كل برغوث على قدر دمه»، الأستاذ جورج فى إعلان زيت السيارات الأمريكى الأشهر فى العالم يعلن عن جوائز مليونية للسائقين فى عيد الميلاد المائة للشركة. لست أقلل من قدر الأستاذ جورج ولا أهالينا السائقين والشركة بالطبع، ولكن، هذه بالضبط كأنك وضعت أيس كريم فاخر على فخارة سد الحنك، صحيح كلاهما حلو لكن تركيبة الطعم مختلفة تمامًا. ذكرنى ذلك الإعلان بشبيه له فى نهاية التسعينيات كان لسمن نباتى ردىء-وثبت ضرره فيما بعد- باع فى مصر ما باعه، لا بسبب جماله وملمسه المرمل ولكن لأن الفنانة يسرا كانت بطلة الإعلان، وتوقف الناس والنقاد أمام هذا الإعلان كثيرًا وتساءل النقاد على صفحات الجرائد حينها: « سمن يا يسرا»، لكنهم فى النهاية ابتلعوه وشروا منه أطنانًا فوق الأطنان. وتساءلت أنا إذا كانت الأحوال تدهورت إلى هذا الحد بالأستاذ جورج، فأنا فى كل الأحوال مستور والحمد لله على نعمة الصحافة. على محطة تلفزة عربية مهمة كان عنوان الحلقة على الشاشة «الشرق الأوسط الجديد.. تصحيح الخريطة»، ماذا تصحيح؟! رفعت الصوت أكثر، المذيع فى الاستوديو من مدينة عربية فاخرة يبشر بخريطة شرق أوسط جديد، معه ضيوف على الهاتف تقريبًا من كل العواصم العربية المهمة وآخرون فى الاستوديو كأنها حلقة نقاشية تبشيرية مكتملة، يتناولون خلالها أسئلة مصيرية بمنتهى الاعتيادية منها مثلًا: هل باتت الحاجة مُلحة الآن لشرق أوسط جديد؟، ثم إلى أى مدى يتوجب الآن « تصحيح» الخريطة، وأى دولة سيتم تعويضها بماذا فى مقابل أراضيها وماذا ستدفع الدول التى ستضم أراضى جديدة، نعم؟، هل بهذه السهولة والاعتيادية تتم مناقشة الأمر واستعراضه على أنه مسألة مُسلم بها وستحدث بلا شك أو مقاومة أو رفض! من ناحيتهم انبرى المحللون فى شرح وتأصيل وتوصيل وفَك وإعادة تفصيل الأسئلة والأجوبة دون خجل أو وجل، كيف يا سادة صار هذا هو الوضع هذه حلقة تبشيرية بكل ما فيها وجميع من فيها من المبشرين بخراب عظيم، يفعلونها بدم بارد جدًا حتى إن أحدهم كان مبتسمًا ابتسامة عضت قلبى وخرجت بشرايينه، أربكتنى جدا سماجة ردود فعل الضيوف، وأحزنتنى للغاية فكرة الفقرة والسؤال الذى تطرحه «هل حان الوقت لوضع خريطة تليق بشرق أوسط جديد»! أما ما الشاهد من السابق كله وما علاقة سمن يسرا وزيت قرداحى بقضية مصيرية فيصلية مهمة، الحقيقة أنه لا علاقة بين هذا وذاك وتلك، تمامًا كما علاقة يسرا بالطعم والريحة والترميلة، وعلاقة وزير الإعلام الأسبق بزيت النقل الثقيل هى بالضبط علاقة الإعلام والخبراء والمحللين بخريطة الشرق الأوسط الجديد، هذه التى لاطعم لها ولا لون ولا نكهة لكن فى النهاية سيبتلعها العالم على أيدى خبرائه ومحاوريه ومحلليه مبشريه وسفاحيه وجميع من فيه، يروجون للسؤال والجواب على الفضائيات ويجترئون على إيجاد حلول للأسئلة الصعبة التى ما جرؤ الاستعمار نفسه على طرحها، لكن نحن نستطيع الترويج لها فى إعلام السمن المرمل والزيت النقل الثقيل.