في زحمة انبهارنا بالنتائج النهائية التي أبدعتها الحضارة المصرية القديمة، كثيرًا ما تغيب عن أعيننا المقدمات والبدايات، تلك التي مهّدت الطريق لبلوغ هذا المستوى المذهل من الإتقان. فالفنان المصري لم يكن مجرد صانع للأثر، بل كان باحثًا عن الخلود، ومهندسًا للدهشة، استطاع – منذ عصور ما قبل التاريخ – أن يُخضع أقسى الأحجار لإرادته، في غياب كل أشكال التكنولوجيا التي نعرفها اليوم، ليصنع من الصخر الصلد إرثًا خالدًا يروي قصة حضارة لا تموت. ◄ من حجر إلى أسطورة: بداية الرحلة منذ أقدم العصور، وتحديدًا في فترات ما قبل الأسرات، أظهر الفنان المصري نزعة فطرية نحو التعبير الفني، من خلال النقوش والتماثيل الصغيرة والأدوات الحجرية. ومع مرور الزمن، تطورت قدراته من تشكيل الأحجار البسيطة إلى التحكم الكامل في أنواع الصخور الصلبة كالبازلت والديوريت والجرانيت، وهي خامات يصعب تشكيلها حتى بأدوات حديثة. هذا التطور لم يكن وليد المصادفة، بل نتاج تراكمي لخبرات فنية وتقنية توارثها المصريون القدماء جيلًا بعد جيل. فقد حرصوا على صقل المهارات وتعليم الأسرار عبر المدارس الفنية داخل المعابد والقصور، ما ساعد على تكوين نخبة فنية تمتلك تقنيات دقيقة في الحفر والنقش والنحت. ◄ التحكم في الصخر.. سحر أم علم؟ لطالما حيّرت قدرة المصري القديم على التعامل مع الحجر الصلب علماء الآثار والجيولوجيا، إذ لا توجد أدلة على استخدام أدوات حادة من المعادن القوية أو الليزر أو التكنولوجيا المتقدمة، بل كان الاعتماد الأساسي على أدوات بسيطة من الحجر والخشب والنحاس. ورغم ذلك، ظهرت تماثيل غاية في الدقة والنقاء، كالتي نراها في تمثال "خفرع" المصنوع من الديوريت، أو رأس "سنوسرت الثالث" المقطوع من كتلة جرانيتية هائلة. هذه الأعمال لا تقتصر على الدقة الشكلية فقط، بل تنطوي على فهم عبقري للنسب والتكوين الفني، وكأن الفنان المصري لم يكن ينحت، بل "يحرر" الشكل من قلب الحجر. ◄ الخلود كغاية فنية لم يكن النحت مجرد وسيلة تعبير عن الشكل والجمال، بل أداة لتخليد الوجود. آمن المصريون بأن الروح لا تظل باقية إلا إذا ظل الجسد ممثلًا في تمثال أو صورة، لذا حرص الفنان على استخدام خامات لا تتآكل، وتصميمات لا تنهار، ونقوش لا تمحى. اقرأ أيضا| لوحة حجرية نادرة.. لمحة مذهلة من الحياة اليومية في مصر القديمة هذا البحث عن الخلود تجلّى في المقابر والمعابد والتماثيل الملكية، حيث دمج الفنان بين التقنيات الحرفية والدلالات الرمزية، ليصنع "فنًا خالدًا" يخاطب السماء كما يخاطب الأرض. ◄ الأثر الباقي.. رسالة الفن إلى الزمن ورغم مرور آلاف السنين، لا تزال منحوتات المصريين القدماء تحتفظ ببهائها، وتقاوم عوامل التعرية، شاهدة على سرٍ لم يُكشف بعد: كيف تمكن هؤلاء الفنانون، دون كهرباء، دون حواسيب، دون برامج تصميم، من صنع هذا المجد؟ ربما يكمن السر في الفكرة قبل الأداة، في الإيمان بأن الفن رسالة خالدة، لا مجرّد مهنة. وربما في إحساس المصري القديم بأن الحجر الذي ينحته سيكون صوته حين يصمت الجميع. إنّ عظمة الفنان المصري القديم لا تُقاس فقط بما خلفه من روائع أثرية، بل بتلك الروح الخالدة التي نفخها في الحجر، حتى أصبح شاهدًا على حضارة ما زالت تثير إعجاب العالم. وبينما ننبهر بالنتائج، علينا أن نعيد النظر إلى البدايات.. حيث بدأت اليد تنحت، والقلب يؤمن، والعين ترى الخلود في صلابة الصخر.