ليس بالأمر العادى أن تتخذ دولة بحجم بريطانيا قرارًا بتجريم منظمة ناشطة على الساحة المدنية، وتنقلها من خانة الحراك السياسى السلمى إلى قائمة التنظيمات المحظورة بموجب قانون مكافحة الإرهاب، لكن هذا ما حدث مؤخرًا مع جماعة «فلسطين أكشن» أو العمل من أجل فلسطين. اقرأ أيضًا| بريطانيا تدرس الانضمام إلى اتفاق جمركي أوروبي لتسهيل سلاسل الإمداد الدولية ففى خضم المرحلة التى تشهدها القضية الفلسطينية، وفى ظل العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة الذى أعقب عملية السابع من أكتوبر، أو ما عُرِف إعلاميًا ب»طوفان الأقصى»، أعلنت الحكومة البريطانية عزمها حظر الحركة وتصنيفها ضمن التنظيمات المحظورة وفقًا لقانون مكافحة الإرهاب لعام 2000، متهمةً إياها بممارسة التخريب المتعمد وتعطيل عمل المنشآت الحيوية، بل وتعريض الأمن القومى للخطر. بدأت القصة تتخذ طابعًا متفجّرًا قبل أشهر، عندما اقتحم ناشطو «فلسطين أكشن» عدة مصانع ومكاتب ومرافق تابعة لشركات صناعة الأسلحة التى تتعامل مع الجيش الإسرائيلى، وعلى رأسها مصنع المحركات فى قاعدة سلاح الجو الملكى البريطانى فى برايز نورتن. وأظهرت الصور التى تداولتها وسائل الإعلام أفرادًا يرتدون الزى الأسود، ويحملون لافتات كتب عليها عبارات تتهم المصنع بالتواطؤ مع جرائم الحرب التى ترتكبها إسرائيل على أرض غزة، ملوّحين بالأعلام الفلسطينية قبل أن يتم توقيفهم من قبل قوات الأمن. اقرأ أيضًا| بريطانيا - فرنسا - ألمانيا.. «ترويكا أوروبية» تسعى لدور الوسيط وبالنسبة لهؤلاء الناشطين، فإن القضية ليست مجرد ملاحقة لشركات سلاح، بل تندرج ضمن محاولاتهم لوقف شرايين الدعم العسكرى والسياسى البريطانى لإسرائيل، والذى يرى كثيرون منهم أنه يشكل عنصرًا محوريًا فى استمرار العدوان على الفلسطينيين. وقد وصفت وزيرة الداخلية البريطانية إيفيت كوبر هذه الأنشطة بأنها تجاوزت إطار الاحتجاج السلمى، وتحولت إلى تهديد مباشر للبنية التحتية الوطنية، مما اقتضى التعامل معها وفقًا لقوانين مكافحة الإرهاب. وأعلنت كوبر أن الحكومة ماضية نحو إصدار قرار يحظر نشاط هذه المجموعة وتنظيمها، معتبرة أن ما يقوم به ناشطوها «ليس احتجاجًا سلميًا، بل تخريبًا ماديًا وتعطيلاً لعمل المنشآت الحيوية التى تدعم قوات حليفة». وأضافت أن هذه الخطوة تتوافق مع مواقف سابقة للحكومة تجاه محاولات تعطيل المنشآت الاقتصادية، مشددة على أن التصدى لما وصفته بالتطرف العنيف واجب على الدولة. اقرأ أيضًا| الرئيس الفرنسي: سنقدم مع بريطانياوألمانيا عرضًا تفاوضيًا كاملًا لإيران لكن هذه الرواية الرسمية للحظر، التى تحظى بتأييد بعض التيارات اليمينية المحافظة، تواجه انتقادات واسعة من قبل طيف سياسى وحقوقى عريض داخل بريطانيا، يرى فيها اعتداءً على الحق فى التظاهر السلمى، وضربًا لحرية التعبير، بل ومخالفةً لروح القوانين التى طالما تباهت بها المملكة على الساحة الدولية. وقد سارعت المنظمات الحقوقية إلى وصف القرار بأنه قمع سياسى ويشكل سابقة مقلقة تتعارض مع مبدأ الحق فى الاحتجاج المدنى. وتنقل تقارير مراكز بحث، مثل مؤسسة تشاتام هاوس، مخاوف متزايدة لدى الدوائر الأكاديمية من أن استخدام قانون مكافحة الإرهاب لقمع أصوات التضامن السياسى، مهما كانت مثيرةً للجدل، يشكل انعطافًا خطيرًا نحو تقييد مساحة الحوار السياسى، وينذر بانتقال العدوى إلى قضايا ومطالب جماهيرية أخرى. ويأتى هذا التصعيد على مستوى الداخل البريطانى مترافقا مع اتساع الجدل الذى يتعلق بالدور البريطانى على الساحة الدولية، وتحديدًا مواقف لندن من العدوان الإسرائيلى على غزة، الذى تسبب فى استشهاد أكثر من 54 ألفا من المدنيين، أغلبهم من النساء والأطفال. ففى المرحلة الأولى من العدوان، سارعت لندن، على غرار واشنطن، إلى تبنى خطاب الحق الإسرائيلى فى الدفاع عن النفس، بل وأرسلت عتادًا عسكريًا ومساعدات لوجستية لقوات الجيش الإسرائيلى، مبررةً موقفها بحتمية محاربة الإرهاب وضرب البنية التحتية العسكرية لحماس، ووقفت بريطانيا، إلى جانب الولاياتالمتحدة، ضد عدة قرارات على منصات الأممالمتحدة طالبت بوقف إطلاق النار فورًا. لكن مع مرور الأشهر، وتزايد مشاهد الدمار ومقاطع الفيديو التى أظهرت حجم القتل الجماعى، وضغط المؤسسات الإعلامية والمنظمات الحقوقية على الساحة الأوروبية وخروج مئات الآلاف فى مظاهرات أسبوعية فى بريطانيا دعما لغزة، وتزايد حملات المقاطعة الاقتصادية للشركات التى تتعامل مع الجيش الإسرائيلى، بدأت مواقف لندن تتخذ طابعًا مزدوجًا حيث أصدر ستارمر، بيانًا مشتركًا مع فرنسا وكندا، دعا فيه إلى ضرورة وقف العدوان والسماح بمرور المساعدات الإنسانية، محذرًا من النتائج الكارثية على المدنيين الفلسطينيين. كذلك، خرج وزير الخارجية، ديفيد لامى، بتصريحات لافتة أكد فيها على ضرورة محاسبة إسرائيل على عرقلة دخول المساعدات وعدم امتثالها لقوانين الحرب، قبل أن تتنصل الحكومة من اعتبار هذه التصرفات جرائم حرب، متمسكةً بخطاب متحفظ يربط المحاسبة بالتحقيقات الدولية دون تبنّى مواقف حازمة. هذا التناقض الصارخ جعل بريطانيا محور انتقادات واسعة على المستويين الداخلى والخارجى. ففى الوقت الذى ترفع فيه شعار الدفاع عن حقوق الإنسان وحماية المدنيين، تواصل تقديم الدعم السياسى والدبلوماسى للحكومة الإسرائيلية، بل وتنظر إلى محاولات التضامن الشعبى معها على أرضها بوصفها تهديدًا للأمن الوطني. هذه الثنائية وضعت لندن على المحك، حيث يرى البعض أن قرار الحظر على «فلسطين أكشن» يحمل أبعادًا سياسية تتجاوز مواقف المجموعة نفسها، وتعكس محاولات الحكومة لفرض تعريف فضفاض للإرهاب على كل عمل جماهيرى يحمل طابعًا معاديًا لإسرائيل. ومن الناحية القانونية، يرى البعض، من محامين ومحللين سياسيين، أن توظيف قوانين مكافحة الإرهاب على جماعات سلمية يشكل سابقة مقلقة، تؤسس لمرحلة يتم فيها تصنيف كل صوت متمرّد على السياسات الرسمية للحكومة على أنه تهديد للأمن القومي، مما يعنى تآكل هامش الحوار السياسى وتحويل الساحة العامة إلى ميدان للاستقطاب والتخوين. كما يحمل هذا القرار أبعادا أخلاقية تتصل بالسؤال الكبير حول حدود العمل السياسى وحماية مبدأ التعبير عن الرأى، خصوصًا فى قضية كالقضية الفلسطينية التى طالما اعتبرتها غالبية الشرائح الشعبية على مستوى العالم مثالًا على العدالة المغيبة وحربًا غير متكافئة الأطراف. وهكذا نجد أن قرار حظر «فلسطين أكشن» ليس سوى مظهر من مظاهر التناقض البريطانى الحالى، الذى يقف على عتبة فاصلة بين صورة دولة تدافع عن الحريات العامة وتحترم حقوق التعبير، وبين دولة تفرض تعريفًا مشددًا على مواقفها من القضايا الدولية، وتقبل بتقديم تنازلات مبدئية على حساب المبادئ التى طالما تغنّت بها.