فى الذكرى الثانية عشرة لثورة 30 يونيو، لا نكتب تأريخًا لماضٍ مضى، بل نقرأ الحاضر من مرآة اللحظة التى غيّرت المسار. فالثورات الكبرى لا تُقاس فقط بما أسقطته من أنظمة، بل بما أنقذته من احتمالات. و30 يونيو، فى جوهرها، لم تكن ثورة على حكم، بل كانت انتفاضة شعبٍ لحماية دولة، وتصحيح بوصلة أمة كانت تُدفع قسرًا إلى الهاوية. فى ذلك اليوم الصيفى الحارق، خرج المصريون لا لرفض سلطةٍ وحسب، بل لرفض مصير. وقفوا ضد استكمال مشروع اختطاف الدولة الوطنية، وهو المشروع ذاته الذى -فى صور وأقنعة متعددة- يُعاد تسويقه الآن فى أكثر من عاصمة عربية، على ظهر دبابات المحتل أو تحت رايات المقاومة أو بوعود الديمقراطية المشروطة. لم تكن 30 يونيو ثورة على حكم جماعة فقط، بل كانت -دون مبالغة- لحظة مقاومة مبكرة لمخطط تفكيك الشرق الأوسط من الداخل، عبر وكلاء محليين وتابعية إقليمية وشراكاتٍ دولية لا ترى فى الجغرافيا العربية إلا ساحة فراغ تصلح لإعادة الترتيب وفق ميزان المصالح لا حدود السيادة. ■ ■ ■ المعجزة الحقيقية فى 30 يونيو لم تكن فى عدد الملايين التى خرجت، بل فيما مثّلته تلك الملايين من وعيٍ خام: أن الدولة، مهما ضُعفت، أَولى بالحماية من فكرةٍ تهدمها تحت لافتة الخلاص. كان ذلك الإدراك الشعبى أسبق من نخبٍ كثيرة، ومن أجهزة كانت تتلمس طريقها بين الحفاظ على الشرعية الدستورية وحماية الكيان من التفكك. ولهذا بالضبط، جاءت الثورة كثورة على الانهيار، لا لأجل استبداله، بل لأجل منعه. واليوم، ونحن نُطالع المنطقة وقد انفجرت فيها كل التناقضات المؤجلة، من حرب إسرائيل وإيران، إلى تقويض الدولة فى العراق وسوريا ولبنان واليمن، نُدرك كم كانت مصر سبّاقة فى فهم حقيقة ما يُراد لهذه المنطقة. ■ ■ ■ ما يجرى الآن بين طهران وتل أبيب ليس حربًا عادية، بل يعد انهيارًا علنيًا فى قدرة القوى التقليدية على ضبط الإيقاع. إسرائيل، التى لطالما صدّرت صورة القوة غير القابلة للاختراق، باتت تخوض حربًا دفاعية على أرض واسعة ومتعددة الجبهات. وإيران، التى راهنت طويلًا على النفوذ بدل الصدام، تجد نفسها فى مرمى نيران لا تُخمدها البيانات ولا تُعفيها من ارتباك الداخل. فى كلتا الحالتين، هناك مشروع يريد أن يُمسك بمفاتيح المنطقة: مشروع إسرائيلى يقوم على القوة المجردة، ومشروع إيرانى يستند إلى فكرة تصدير الثورة عبر الوكلاء. والمفارقة أن كلا المشروعين ينهار الآن تحت وزن الواقع، تمامًا كما انهارت مشاريع سابقة أرادت «إعادة تشكيل» المنطقة دون شعوبها. وهنا، تبرز مصر-ليس كقوة عسكرية أو تمويلية أو عقائدية- بل ككيان نجا من الحريق، ويملك شرعية النجاة. ■ ■ ■ ليس من باب الصدفة أن تكون القاهرة أكثر العواصم العربية احتفاظًا باتزانها فى خضم هذا الإعصار الإقليمى. وليس من باب الحذر فقط أن تنأى مصر بنفسها عن المغامرات العسكرية، لكنها تدرك أن لعبة إعادة تشكيل الشرق الأوسط لا تُلعب على طاولة الرماح، بل تُصنع فى الظلال-بالكلمة، والموقف، والتوازن. ثورة 30 يونيو لم تفتح بابًا نحو الحلم فقط، بل أغلقت أبواب الجحيم أيضًا. فمصر التى رفضت عام 2013 أن تُدار بالريموت كنترول من أنقرة أو طهران أو واشنطن، هى نفسها التى ترفض اليوم أن تكون بندقيةً فى يد طرف، أو منصةً لرسائل صاروخية فى نزاعٍ لا يخدمها. هذه الدولة التى أنقذت ذاتها من التفتت، باتت اليوم جزءًا من الضمانة الإقليمية لعدم انهيار المنطقة برمتها. ■ ■ ■ حين خرجت مصر فى 30 يونيو، كانت تبدو وحيدة. محاطةً بمحاور مشتعلة، ووسط شكوك دولية، وهجوم إعلامى شرس. لكنها ثبتت، لأنها كانت تعرف ماذا ترفض، وتدرى تمامًا ماذا تُنقذ. واليوم، بعد أن انهارت كل الأسقف فى الإقليم، وعاد شبح الحرب الشاملة ليطرق أبواب العواصم الكبرى، تعود 30 يونيو كذكرى لا للفرح فقط، بل للتذكير بأن النجاة لم تكن صدفة، وأن الثمن الذى دفعته مصر لحماية دولتها، كان ثمنًا لمشروع بقاء، لا لمجرد انتفاضة سياسية. فى لحظةٍ تذوب فيها خرائط وتتآكل فيها سيادات وتُباع فيها الأوهام على الأرصفة الدولية، يبقى درس 30 يونيو واضحًا لمَن يريد أن يفهم: أن دولةً واحدة تعرف نفسها، أفضل من عشرين مشروعًا لا يعرفون شعوبهم.