في عمق صعيد مصر، وتحديدًا في مدينة البلينا بمحافظة سوهاج، يقبع مبنى أثري يكتنفه الغموض ويأبى أن يُفك لغزه رغم مرور آلاف السنين، إنه "الأوزوريون"، البناء الغامض الذي يقع خلف معبد سيتي الأول في أبيدوس، مبنى مائي ذو طابع أسطوري، تصميمه لا يشبه أي طراز معروف في الدولة الحديثة، وكتله الحجرية الضخمة تثير تساؤلات حول تقنيات البناء في العصور القديمة. بالصور.. تفاصيل مشروع تخفيض منسوب المياه الجوفية بحمام «الأوزوريون» منذ اكتشافه، حيّر الأوزوريون علماء الآثار والباحثين، وفتح أبوابًا من التساؤلات والافتراضات حول تاريخه، ووظيفته، وسبب وجوده في هذا الموقع بالذات. هل كان معبدًا طقسيًا مائيًا؟ هل هو أثر لحضارة سبقت المصريين القدماء؟ وهل ما نعرفه عن التاريخ هو كل ما كان؟ في هذا التقرير تكشف «بوابة أخبار اليوم»، أسرار هذا المبنى المحيّر، ونسرد كل ما توصل إليه العلم حتى اليوم، ونكشف عن الفرضيات التي لا تزال تبحث عن إجابة. - ما هو الأوزوريون؟ يقع مبنى الأوزوريون خلف معبد سيتي الأول في أبيدوس، ويعود اسمه إلى الإله أوزوريس، رمز البعث والقيامة في العقيدة المصرية القديمة، ويتميز المبنى بطبيعته المائية الغامضة، إذ بني فوق عيون مائية جوفية، وظل حتى يومنا هذا يحتفظ بمستوى ثابت من المياه، مما جعله محفوظًا بصورة نسبية رغم قدمه. ورغم نسبه رسميًا إلى الدولة الحديثة، فإن طريقة بنائه تختلف جذريًا عن طراز ذلك العصر، ما يدفع العديد من الباحثين للتشكيك في تأريخه ويفترضون أنه أقدم بكثير. - الموقع والتخطيط المعماري الفريد الموقع: خلف معبد سيتي الأول، منخفضًا عن مستواه ب18 مترًا. المدخل: من الناحية الشمالية، يؤدي إلى ممر ضيق بطول 2.60 متر. الغرف: يفضي الممر إلى حجرة استراحة، ثم إلى قاعة مستطيلة، تليها قاعة مركزية ضخمة تضم جزيرة تحيط بها قناة مائية. السلالم: درج مزدوج يؤدي إلى قاع القناة الغارقة بالمياه. تصميمه المعماري يجمع بين خصائص المقابر الملكية والمعابد الطقسية، ما جعله محل جدل دائم بين الباحثين. - الطابع المائي للأوزوريون أبرز ما يميز الأوزوريون هو الطابع المائي الذي يحيط به من كل جانب. سواء المياه الجوفية التي شُيِّد فوقها، أو القنوات والجزيرة المركزية، أو الرطوبة الدائمة التي تسكن أركانه. فرضيات مصدر المياه: 1- قناة فرعية من نهر النيل كانت تمر أسفل معبد سيتي الأول، وتغذي الأوزوريون. هذا ما ورد في "وصف مصر" الجزء الثالث والعشرين. 2- تدفق جوفي نتيجة اصطدام المياه الجوفية بالهضبة الجبلية غرب الأوزوريون وارتدادها نحوه. 3- زيادة منسوب النيل خلال بعض الفترات مما أدى لتسرب المياه عبر باطن الأرض إلى موقع الأوزوريون. - الوظيفة الدينية والرمزية يرى الباحثون أن الأوزوريون كان يُستخدم كمكان مقدس لأداء الطقوس المرتبطة بأسطورة أوزوريس وإيزيس، وربما كان يُمثل مكان دفن رمزي لرأس أوزوريس، الذي تمزق جسده في الأسطورة الشهيرة. يمثل المبنى، بتكوينه المائي وجزيرته المحاطة بالمياه، انعكاسًا لما يعرف ب"المحيط الأزلي" في العقيدة المصرية، وهو الماء الذي نشأ منه الكون حسب معتقدات المصريين القدماء. - الأحجار الضخمة.. لغز آخر بعض الكتل الحجرية في الأوزوريون يصل وزنها إلى 100 طن. وضعت هذه الأحجار بدقة مذهلة، دون وجود فراغات أو علامات على أدوات ربط. لا توجد أدلة على استخدام رافعات أو عجلات في هذا العصر. - كيف تم رفع ونقل هذه الأحجار الضخمة؟ هذا السؤال وحده كافٍ لجعل الأوزوريون ضمن أغرب معجزات العمارة في التاريخ. رغم قربه من معبد سيتي الأول، إلا أن المعهد الألماني للآثار أكد أن بناء الأوزوريون أقدم من معبد سيتي، بل أن معبد سيتي بُني جزئيًا فوقه. لا توجد أي نقوش تاريخية رسمية تشير إلى الأوزوريون، وهو أمر نادر في الحضارة المصرية التي حرصت على توثيق كل شيء. أيضا لا توجد نقوش هيروغليفية واضحة على الجدران كما هو معتاد في معابد المصريين القدماء. - تشابه غريب مع حضارات أخرى ما يثير الدهشة أكثر، هو التشابه الكبير بين الأوزوريون وبعض الأبنية الحجرية في أمريكا الجنوبية، تحديدًا: بيرو وبوليفيا، في مواقع مثل "ساكسايوايمان" و"تيياهواناكو". نفس الكتل الضخمة، نفس أسلوب القص، نفس الدقة الغريبة في التوصيل بين الأحجار. في عمق الأوزوريون، يوجد نقش صغير يُعرف ب"زهرة الحياة". وهو رمز هندسي يتكون من دوائر متقاطعة تمثل الشكل المثالي للتناغم والخلق، محفور بدقة نادرة في الصخر. المفارقة: نفس الرمز يوجد في معابد بالهند وتركيا والصين وحتى أوروبا. لا يوجد أي رابط زمني أو حضاري بين هذه الحضارات. كيف وصل نفس الرمز إلى أماكن متباعدة؟ هل هو رمز عالمي لحضارة مفقودة؟ - فرضيات حديثة تثير الجدل 1- حضارة ما قبل الفراعنة: بعض الباحثين مثل "بيتر غارياف" و"جون أنتوني ويست" يرون أن الأوزوريون يعود لحضارة سبقت الحضارة المصرية، ربما ب10 آلاف عام. 2- تآكل المناخ المطري: النظرية الجيولوجية تقول إن الكتل الحجرية تأثرت بمياه كثيفة، ما يرجّح وجودها في فترة مناخية كانت فيها الصحراء مطيرة، أي قبل نهاية العصر الجليدي. 3- شبكة هندسية مدفونة: بعض النظريات تتحدث عن أن الأوزوريون قد يكون جزءًا من شبكة طقسية أو هندسية مائية مدفونة، تمتد أسفل معبد سيتي وأبيدوس. - لماذا لا يعرفه كثيرون؟ عدم وجود إشارات رسمية في نقوش المعابد. الموقع الغارق بالمياه جعله بعيدًا عن المسارات السياحية التقليدية. الغموض المحيط به جعله عرضة للتجاهل الرسمي رغم أهميته. الأوزوريون ليس مجرد مبنى أثري، بل صرخة في وجه التاريخ التقليدي، و"لغز معماري" قد يعيد كتابة فهمنا للحضارات القديمة. وجوده، وتصميمه، ومكوناته، وأسئلته المفتوحة تدفعنا للتفكير: هل كانت هناك حضارة ضائعة سبقت كل ما نعرفه؟ هل ما نعتبره "بدايات" هو في الحقيقة "نهاية حضارة سبقتنا"؟ ربما لن نعرف الحقيقة قريبًا، لكن المؤكد أن "الأوزوريون" سيبقى من أغرب وأعظم أسرار الحضارة المصرية القديمة.