فى طريقها من طهران إلى تل أبيب أضاءت الصواريخ السماء لتُسجَّل لفترة مقبلة فى ذاكرة الصور الأيقونية، ورغم الرمزية العالية لهذه الصورة، إلا أن تأثيرها الواقعى على مآلات الحرب يبقى أضعف مما يبدو؛ لكن هذا النوع من الصراعات له أوجه متعددة تتغلغل فى المجالات كافة، وكل يدخل إلى النقاش من زاويته وانحيازاته: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أن البعد الدينى يبرز هنا كعامل أخطر يُبقى الصراع مشتعلًا حتى بعد توقف الأعمال العسكرية. خلال سير المعارك، وبين إجهاد متابعة الأرقام والإحصائيات، وبين محاولات منهكة وتكاد تكون عبثية لتمييز الحقيقى من المزيف، لا بد أن مشاهد إطلاق الصواريخ كانت الأكثر تشويقًا، ومن بينها شدَّنى فيديو لمجموعة من الناس يسهرون فى الهواء الطلق. هواتفهم توثق لحظة مرور الصواريخ الإيرانية كالبرق فى السماء باتجاه تل أبيب، بينما عازف ساكسفون يتمايل على إيقاع لحنه. شاهدت الفيديو مرات، معجبًا بأن كل تفصيلة وحركة كانت فى مكانها الملائم بالضبط حتى أن الشك ساورنى أنه إنتاج محترف من الذكاء الاصطناعي، لكن ليست الرغبة فى معرفة حقيقته ما جعلنى أعيد المشاهدة مرات، بل لأن المعنى العام من وراء العمل، التلقائي، كان مريحًا نفسيًا فى لحظة توتر قصوى، والفضل يعود للعازف الذى لم يكن مطلوبًا منه فى تلك اللحظة إلا أن يلتزم بما يفعله، أى تصرف آخر كان ليفسد المشهد والفيديو بأكمله، وهو سواء كان إنتاجًا بشريًا أم آليًا فدلالته الإنسانية فى الحالتين واضحة وضوح المعنى فى قصص الأطفال والكارتون الخالية من التعقيدات. كان الصداع والإرهاق قد تمكنا منى من كثرة ما تابعت من أخبار وتحليلات إلى أن وجدت ضالتى عند العازف، أسعى بإلهام منه لتذكر قصص مرت علىّ سابقًا من التراث الإنساني.. أفعال فردية وقت الحروب تبدو وكأنها لا معنى لها، أو بلا أهمية مقارنة مع الأحداث الجارية، رسم لوحة مثلًا وسط حرب مهلكة، زراعة نبتة فى أرض محروقة، قصة حب لا تبالى بإنذارات النهاية! مؤكد أن كل فعل فردى وقت الحروب يقف وراءه منطق قوى وقناعات راسخة، تختلف عن تردّد التصرفات فى الأيام العادية، وعليه تُنسج الأساطير فيما بعد حول قصص الحروب، والتفضيلات الشخصية وحدها ما يبقى قصة وتمحو أخرى، وعليه فتخيل منطق العازف هنا لا يعتمد إلا على تصور لا علاقة له بالحرب نفسها، ولا بمشروعية طرف فى الدفاع عن نفسه، ولا بحق مواطنين فى تبنى خطابات الدفاع عن الأرض والوطن. منطق العازف لا يغفل كل ذلك ولا يتجاهله، وموقفه لا ينبنى بالتأكيد على اللامبالاة. فعزف مقطوعة موسيقية وسط حرب يتطلب مجهودًا مضاعفًا؛ لا يتعلق الأمر بالفن وحسب، بل بالوعى التام بتفاصيل الصراع وأطرافه وأهدافه. من هنا، يأتى اختيار العازف للترفع الكامل عن المشاركة إلا بفعل فردى ينبع من وجهة نظر شخصية. فى حالتنا هذه، وفى حالات مماثلة سابقة، ينأى العازف بنفسه عن أن يكون مجرد مفردة فى نسيج عصر عبثى، رافضًا الانسياق خلف عمى يهدد الحياة نفسها. وسط الأطراف المختلفة يقف العازف يؤدى دوره الخاص فى الأحداث بمقطوعته الموسيقية، يمكن تخيل أنه سيحافظ على أدائها إلى أن يصيبه صاروخ ما، وليس فى ذلك شجاعة ما، كما أنه ليس هروبًا من الواقع بقدر ما هو فهم لطبيعة وحدود دوره، فمثلما لدينا صناع للموت والدمار، ومشجعون على الناحيتين يصرخون طالبين المزيد، فلدينا تعبير رمزى عن قدرة الحياة على مواصلة تدفقها حتى وإن كانت بنغمات خافتة مقارنة بالإيقاع الكريه لأصوات الانفجارات. وهنا، يبرز التناقض الصارخ بين هذا المنطق الذى يمثله العازف، وبين النداء المعتاد فى مثل هذه الحالات: «اختر فريقًا.» هذا النداء المصحوب بانفعالات قد تخرج عن السيطرة، حيث تصبح الحقيقة أحادية ولا تحتمل التجزئة، والكلمة غير المتيقنة قد تسقط صاحبها فى شبهة انحياز خاطئ. فى خضم هذا الجنون، قد يبدو فى تحليل منطق العازف بينما البوارج والقطع الحربية فى طريقها إلينا صرفًا للوقت فى غير محله، لكنه فى الحقيقة سؤال عن معنى الإنسانية فى زمن العبث، فمع أن الحروب كلها لا منطق لها إلا أن ما نحن بصدده ليس معركة عادية، وليس صراع مصالح وأطماع مما ألفناه، بل صراع وجودى يهدد فيه كل طرف بفناء الآخر، وتتزايد فيه تعبئة الرموز الدينية واستدعاؤها إلى أرض الواقع، بإلزامات لا لبس فيها. لا يعد منطق العازف بتقديم حل ما، لا يسعى لأن يكون تحليلًا ينافس التحليلات الأخرى، ثم إنه ليس قراءة أو استبصارًا، ولكنه يقدم منظورًا ضروريًا للبقاء أو على الأقل للتماسك فى عالم مضطرب، ليس ترفًا ولا هو مجرد خلفية مناسبة لأعمال الحرب بل طريقة للتفكير، وفق مبدأ فلسفة الزن التى ترى أن الانتباه الكافى إلى أفكارنا يمكن أن يحررنا من سيطرتها، مما يمكننا من التصرف بوعى تام ومنطق يتناسب مع الحاضر. يقرر العازف الاستسلام التام لمقطوعته الموسيقية، بلا انشغال كبير بتأثير فعله على من حوله، على المستمعين الذين أصبحوا مراقبين وشهودًا على مرور الصواريخ، يتماهى عزفه بشكل ما مع اللحظة بأكملها، يتوقف الزمن بالنسبة إليه فى تلك اللحظة تحديدًا، يصبح قادرًا على رؤية الأمور بصورة واضحة ومن دون أن يبذل مجهودًا فى التفكير فيها أو تحليلها.