هي حية ترزق، تتنفس وتضحك وتحب، لكنها في نظر الاوراق ليست إلا شبح، ظل لا وجود له، ولدت في الظل وعاشت في الخفاء، تحمل اسماً ووجهًا ًليس موجودًا في السجلات الرسمية، القصة الغريبة التي بين أيدينا ليست عن فتاة ضاعت من أهلها، بل عن فتاة هي عمرها الآن 27 عامًا، وجدت نفسها غير مسجلة في الأوراق الرسمية، فكيف لفتاة حيّة بكل ما للكلمة من معنى ان تكون مجرد وهم وهي تمشى على قدمين من دم وروح؟ لا شهادة ميلاد تثبت قدومها إلى الحياة ولا بطاقة هوية تحملها وتتعامل بها مع الجهات الرسمية، لكن منار الفتاة الشابة رفضت أن تظل ظلاً عابرًا، فمن هي هذه الفتاة التي ولدت خارج حسابات العالم؟ وكيف كانت تتسلل بين دروب الحياة دون أن تخرج لها بل ظلت حبيسة أركان البيت إلا من مشاوير قليلة تقضيها لا تخرج عن حدود الشارع الذي تسكنه؟ قصة ميار مثيرة بل هي أغرب من الخيال نسردها في السطور التالية. بدأت القصة في محافظة الشرقية عام 1995، حين تعرف شاب ثري على فتاة بسيطة، نشأت بينهما علاقة عاطفية سرعان ما تطورت إلى حب ورغبة جامحة في استكمال العلاقة العاطفية إلى النهاية ولكن عائلة الزوج لم ترض بتلك الزيجة، فكيف لشاب من عائلة ثرية أن يتزوج من فتاة فقيرة؟! الفتاة رأت أن قصة حبهما كانت دليلًا على أن القلوب لا تختار، فالحب يولد حيث يشاء، ولديه القدرة على تحطيم كل الحواجز، لكن لم يكن معلوما وقتها نية هذا الشاب، هل رغبته فيها دفعه لأن يقدم وعودًا كاذبة لحبيبته أم يريد أن يتزوجها فعلاً؟!، ولان الفتاة الفقيرة تعلم أن زواجها من حبيبها أمرا مستحيلا وافقت على اقتراح حبيبها أن يكون بورقة عرفية، ومعًا سيواجهان عائلة الزوج وأن يضعوهم أمام الأمر الواقع، لكنها نسيت أن تواجهه هو أولا؛ فقد عاشت معه3 سنوات مجرد زوجين في الخفاء، وخلال تلك السنوات ظلت كالظل في حياته خائفة أن يعلم أحد بوجودها، علاقتهما خفية، تمر الايام والتوتر والقلق يزداد، حتى حدث ما خشيت منه، فكل المشاعر والوعود، ما هي إلا مسلسل حلقاته معتمدة من الأكاذيب ونهايته مؤلمة للوصول فقط للرغبة والمتعة، فوعده لها بتصحيح الزواج ليكون على يد ماذون كان مثل صحراء ممتدة ظنها الظمآن ماءً..، سرعان ما ظهر الوجه الحقيقي لهذا الشاب، لمجرد علمه أن نبضً في رحم الفتاة، نطفة حبهما، وبمجرد علمه بحملها هرب من المسئولية، عندما دقت ساعة الجد، تبخر كدخان في وضح النهار، تاركًا خلفه قلبًا بائسًا يتساءل: أين اختفى من ظنته حبيبها؟ انكر نفسه والجنين الذي في احشاء زوجته رفض أن يعترف به، طلقها في مكالمة تليفونية وهرب من كل شيء، فكان مثالا للندالة، وبين ليلة وضحاها صارت البنت الفقيرة وحيدة بعدما عادت الى أمها تجر أذيال الخيبة، ليس لها حول ولا قوة، لا تعرف كيف تثبت نسب طفلتها، حاولت أن تجهض نفسها مرارًا وتكرارًا لكن القدر كان لها بالمرصاد ففشلت كل محاولاتها، وبقى السؤال الأهم والأخطر وهو: كيف تواجه الناس لوحدها؟! الهروب قررت ترك محافظة الشرقية، وذهبت لأحد أقاربها تختفي عن الجميع لديهم، فكانوا نعم الستر والغطى عليها بدلا من أن تتخلص من الطفل وتركه أمام باب جامع أو دار أيتام، وبعد أشهر قليلة عادت الفتاة الفقيرة إلى قريتها وهي أم تحمل طفلتها الصغيرة، وكلها لهفه واشتياق لحضن والدتها، وبين يديها طفلة رضيعة، بمجرد أن رآها الناس، ظهرت في أعينهم الكثير من الاسئلة وكأنهم يسألونها أين زوجك؟!، وفي رد فعل سريع أجابت الأم عن سؤال إحدى جاراتها،»ليست ابنتي، بل رضيعة وجدتها في الشارع تصرخ من الجوع، وكادت أشعة الشمس تحرقها من وحدتها، وخوفا من أن تلقى مصرعها جوعًا وعطشًا أخذتها واعتبرتها ابنتى»!، بعدها تحولت نظرات الناس الغاضبة الى نظرة رحمة، الجميع فرح بقلب الفتاة الفقيرة الطيب والرحيم، نجحت الأم الشابة في اقناع الجميع بسيناريو كاذب، لكن لا يمكن لأحد أن يصف شعور أم تنكر نسب فلذة كبدها إليها. وما أن اختلت الام لنفسها بين أربعة جدران، انهارت باكية تندب حظها تسأل نفسها: «لماذاقست الأيام عليا بهذا الشكل؟، ونظرت إلى رضيعتها تطلب منها الصفح والغفران حين انكرتها أمام الناس، وعاشت الام تربي طفلتها وتراها تكبر أمام عينيها، اختارت لها اسم «ميار» لكي تناديها بها ولكن لم تكن مسجلة في مكتب الصحة. زواج بالفعل انخدع الجميع وصدق كذبتها، وبعد سنة تقدم لخطبتها شاب، وافقت الفتاة الفقيرة ولكن بشرط أن تظل الطفلة اللقيطة معها اينما ذهبت ولن تتخلى عنها مهما حدث، وكأننا نشاهد فيلم الخطايا ولكن في الواقع بعد عقود عديدة -رفض العريس في البداية أن يكون مسئولا عن طفلة لا يعرف من أين جاءت، ليس لديها شهادة ميلاد وغير مسجلة في أي مكان ولا حتى في قطاع الأحوال المدنية، لكن العروس كانت تصر على وجودها معها ولما لا وهي أمها الحقيقية التي انكرت ابنتها بكل جحود، وافق العريس في النهاية عللا شرط أنه لن يكتبها على اسمه، ويجب أن تعرف تلك الطفلة عندما تكبر أنها «لقيطة» ليس لها أهل ولا حتى اسم، وبالتالى لن تدخل المدارس، وافقت العروسة المهم ألا تتخلى عن ابنتها. مرت عدة شهور وعلمت الأم بحملها، شعرت بالفرحة والسعادة، بأن اخيرا عاشت حياة زوجية مستقرة وطبيعية كما تمنت طوال حياتها، وبعد تسعة أشهر وضعت حملها، وصار لها طفلان، بنت تنكرها أما الناس وهي ابنتها وأخرى من زوجها الذي تزوجته رسميًا، الاثنان تحت ظلها واعتقدت الأم أن جميع مشكلاتها اتحلت لكن لم تعرف أن ناقوس الخطر سوف يدق حياتها مرة أخرى. بعد عامين آخرين أنجبت الأم طفلا آخر، في ذلك الوقت ميار كانت كبرت، هي تعتقد أنها تعيش مع امها وأبيها، لكن بدأ يتغير كل شيء في عقلها، عندما دخلت شقيقتها الروضة ثم المدرسة، هنا امتلأ عقلها بمئات الاسئلة التي هوت عى رأس الأم مثل معول، لماذا لم ادخل المدرسة مثل شقيقتي؟، وجاءت إجابة الأم غريبة، «انتي الكبيرة يجب ان تساعديني في شئون المنزل ومراعاة شقيقك الاصغر»!، ليسكن الحزن قلب ميار معه تشعر بالتفرقة بينها وشقيقيها، بالإضافة إلى تفضيل الزوج في معاملته لولديه أكثر منها، فكانت ميار تنام وهي تبكي والدموع دائما مستقرة في جفنيها. فالمقارنات الظالمة خلقت فجوات لم تلتئم بينها وشقيقيها، هدمت جسور المودة بينهم، حتى شعرت ميار بالكره تجاه شقيقيها بسبب تفضيل الاب بينهم، شعور يكبر كلما تكبر، سنوات تمر وطاقة ميار انتهت، حتى قررت مواجهة والدها، وفي لحظة غضب عاتبته، وكانت الصدمة عندما قال لها: «انتي مش بنتي وأمك لقيتك في الشارع لقيطة وأنا وافقت ان اربيكي مع ولادى لكن صعب انك تاخدي اسمي». صدمة من الصعب وصفها، على قلب وعقل فتاة في سن المراهقة، بأن أهلها ليسوا أهلها الحقيقيين وعجزت الأم على أن تبوح لها بالسر، دخلت ميار في صدمة نفسية، مرضت وبين لحظة وأخرى تسال عن المكان الذي تم العثور فيه عليها حتى تبحث عن أهلها. وفي لحظة انهيارعصبي لميار، معها انهارت الأم واعترفت لها بالحقيقة كاملة، وكانت الصدمة للجميع للزوج والابناء وميار، بررت ذلك أنها لم تجد وسيلة تحمي نفسها وبنتها سوى تلك الطريقة. غضب وصراخ وهجوم من الجميع على الأم، أولهم ابنتها ميار التي انكرتها طيلة هذه السنوات، ومن جهة أخرى الزوج، بركان من الغضب اندلع وسط المنزل، واسئلة لم تستطع الام الإجابة عليها، ضعفت واختفت في غرفة بالمنزل، وبعد دقائق دخل أحد الأبناء ليطمن على والدته ليكتشف الجميع أنها ماتت حزنًا وكمدًا. أما ابنتها ميار التي صارت شابة يافعة، فلم يعد لديها قوة للمقاومة، روحها منهكة وجسدها خائر، اشتهت فقط أن ينتهي كل هذا الألم، بالموت مثل أمها. ميار، دخلت في حالة عصبية، شعرت أنها السبب في موت أمها وهي في أشد الاحتياج إليها، حملت نفسها فوق طاقتها، تركت ميار المنزل وعاشت مع جدتها تتلقى العلاج النفسي، فالضوضاء في رأسها لا تتوقف، والافكارالسوداء تسيطر عليّها، تمنت لو تجد طريقة لإيقاف ما يحدث معها. الشعور بالغضب من والدها الحقيقي، يكبر يوما بعد يوم، وبعد فترة قررت الجدة البحث عن ورقة الزواج العرفي لكي ترتاح حفيدتها من الألم، ظلت الجدة تبحث في اشياء ابنتها القديمة، حتى وجدت ورقة الزواج العرفي، يالها من مفاجأة، ذهبت الى محامين كثيرين لكن لم تجد لديهم حلا، كما أنها أي الجدة سيدة عجوز بسيطة لا تستطيع تحمل النفقات المالية لرفع أي دعوى قضائية أمام المحكمة. القضية وبالمصادفة علم المحامي محمد عبد السميع، بتفاصيل قصة ميار فقرر الرجل الذي رق قلبه للقصة مساعدتها، وبدون مقابل مادي، فاعتبر– والكلام هنا على لسان المحامي الإنسان الشهم محمد عبد السميع - القضية تحديا له ولقدرته كمحامي مهمته هي الدفاع عن الحق والعدالة، أسرع برفع دعوى قضائية يطالب من خلالها بإثبات زواج حدث منذ عام 1995، حاول البحث عن شهود والتواصل مع الزوج لكنه أنكر الزواج، فظل يبحث ويجمع خيوط القضية، فكل مستند، كل شهادة، كل كلمة، هي خيط رفيع في يد المحامي، ينسج منها نسيجًا متينًا لقصة الدفاع، وبالفعل وجد مستندا قديما في محافظة الإسكندرية عليه امضاء الزوج، استطاع أن يستخرج الورقة، وقدمها للمحكمة، وطالب خبير خطوط للمقارنة بين خط الزوج الذي حاول الإنكارعلى عقد الزواج العرفي والمستند الرسمي. وكانت المفاجأة اثبت تقرير الخطوط تطابق الخط، واستندت المحكمة إلى ذلك التقرير وتم إثبات الزواج العرفي بين والدة ميار المتوفاة من 30 سنة وبين والدها، فكان الحكم بمثابة الأكسجين الذي أعاد الحياة لروح ميار، رغم أن القضية ظلت في المحكمة 4 سنوات، ومر على الزواج 30 عاما. كل يوم ميار كانت بين فقد الامل والخذلان، أنها حصلت على معجزة قانونية، لم تكن مجرد قضية رابحة، بل كانت معجزة أثبتت أن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت. وبناءً على الحكم، تقدم المحامي محمد عبد السميع، بقضية إثبات نسب لوالدها، طالب المحامي بإجراء تحليل DNA بين الابنة ووالدها، لكنه لم يحضر المحكمة، فميار على أمل أنها تحيا بالأوراق الرسمية وتستخرج شهادة الميلاد والبطاقة، مثل كل الناس، وتعيش حياة طبيعية وتبدأ مستقبلا بخطوات من النور، فكيف لفتاة عمرها27 عامًا لم تولد في السجلات حتى الآن؟ بالفعل تم تأجيل قضية إثبات النسب للحكم 8 يوليو المقبل، ليكون النهاية لقصة ميار الغريبة في كل أحداثها. اقرأ أيضا: أستاذ فقه يكشف طريقة لإثبات النسب غير ال DNA