أصبح لدى مصر متحف مختار دليلاً على أستاذية رمسيس ويصا الذى تولى تشييده بشكل راقٍ أهدانى بلدياتى الصحفى ماهر حسن ابن البحيرة كتابه الذى أصدره عن فنان مصر العظيم محمود مختار. والكتاب محاولة جادة نشرتها هيئة الكتاب حتى تُساهم فى تكوين العقلية الفنية لدى شعب مصر، فى سلسلة يرأس تحريرها الفنان عز الدين نجيب. ويساعده محمد عزت. يقول المؤلف عن بطل الكتاب إن محمود مختار أبو النحَّاتين وفاتح كتاب النحت الحديث فى تاريخنا، إنه الفتى الريفى المتطور الذى ألجأه القدر والظروف الاجتماعية الجائرة ليتذوق اليُتم والحرمان ويُعانى الوحدة والغُربة صغيرًا. سرعان ما راودته الموهبة المُتفجِّرة، والسنون السُمان عن تلك السنين العجاف حتى صار أمل مصر. وهو يجسد من الأحجار إرادة قوية للنهضة فتستعيد مجد التاريخ وتلتف حوله الأمة بطوائفها وطبقاتها. لكن مختار بعد أن ذاق مجد الشهرة والحفاوة والإجلال فى وطنه وفى العالم المتحضر وهو فى الثلاثين من عُمره، كان القدر يضمر له غدراً خسيساً حتى بث جرثومة المرض اللعين فى خلايا جسده ليستل منه الحياة وهو فى ذروة عطائه وعُمره 43 عامًا. أى أنه وُلد 1891، وتوفاه الله سبحانه وتعالى 1934. وأنقذه من رحلة العذاب والمُتعة. والحقيقة أن كتاب ماهر حسن ملىء بالتفاصيل الجميلة عن هذا الشهيد الذى لم نتوقف طويلاً أمام دلالات استشهاده. ولد فى قرية نشا بالدقهلية. هرب من قهر الواقع لشاطئ الترعة، يصنع عالمه البديل باللعب بالطين فيجعل منه مخلوقات طيبة وظريفة من بشرٍ وحيوانات حتى صارت تواسيه وتؤنس وحدته فيناجيها وتناجيه، ثم يأخذها إلى فرن الخبيز بالمنزل ليحرقها فتُصبح بديلاً عن حنان أمه التى غادرت بيته إلى منزل أخيها فى المدينة. وتتوالى أحداث الرواية الإنسانية المؤثرة التى كتبها ماهر حسن بروح فنان وروائى وقاص، رغم أنه شاعر أساساً. وماهر حسن لم يختلق فيها حدثاً واحداً، بل استدعاها مما سجله ابن أخت مختار الأستاذ بدر الدين أبو غازى «وزير الثقافة الأسبق» فى كتابه الخالد الذى كتبه عن خاله فى الستينيات. ولولاه ما عرف أحد شيئاً عن حياته الشخصية فى قريته ودراسته ورحلته إلى فرنسا. وقصص حُبه ومرضه وإنجازاته العظيمة. وأيضاً أعماله الفنية وتحليلها جمالياً ورمزياً وصراعه مع القوى السياسية المناوئة لتنفيذ تمثاله الرمز «نهضة مصر» وهو التمثال الذى يُجسِّد شخصية سعد زغلول للأمة بالقاهرة والإسكندرية، إنها حكاية من حكايات الوطن التى لابد أن تُدوَّن، ودوَّنها زميلنا وصديقنا ماهر حسن بخبرته الأدبية والشعرية. إن هذا الجانب فى حياة مختار هو مفتاحه الذهبى لعقل وقلب القارئ غير المتخصص فى الفن. ويكتُب عز الدين نجيب بقدرة نادرة لم أجدها عند مثقف غيره على تقدير جهد الآخرين وإعطائهم حقهم. يكتُب فى تقديمه للكتاب: ركز المؤلف على البُعد الإنسانى والنضالى لمختار، بل قدم عرضًا مهمًا لأعماله الفنية التى لا تقل أهمية عن نهضة مصر وعن تمثاليه لسعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية. أما صاحب الكتاب فيقول لنا إن بطلنا الفنان العظيم ولد فى 10 مايو 1891، وفى مارس 1934 رحل عن دنيانا، وبينهما فى مايو 1928 تم رفع الستار عن تمثاله الأضخم والأشهر تمثال نهضة مصر. بدأت أول معالم المرض على مختار 1931، احتار فيه الأطباء، وسفَّروه إلى ريف فرنسا. وفى يوليو 1933 أجريت له جراحة استئصال للورم، وفى الصباح الباكر من 27 مارس 1934 شاع فى مصر الخبر وتوافد الأصدقاء على المستشفى ليشيعوا فنان مصر الراحل إلى مثواه الأخير. وخاطبت هدى شعراوى الجهات المسئولة بعودة الجثمان من الخارج وإعادة أعماله من هناك. وهكذا أصبح لدى مصر متحف مختار دليلاً على أستاذية رمسيس ويصا الذى تولى تشييده بشكل راقٍ من فن عمارة المتاحف فى مصر. ولذلك وبناء على جهود هدى شعراوى رأت وزارة المعارف سنة 1938 أن تقوم بإنشاء متحف ومقبرة على نفقة الوزارة، وفى العام نفسه عادت إلى مصر بعض أعمال الفنان الراحل وعُرِضت بمعرض الفنانين الفرنسيين المهاجرين بالجمعية الزراعية. وقد كان للدكتور طه حسين أثر كبير فى استعادة أعماله التى كانت قد تركها فى أوروبا. وأصبح متحفه متحفًا للحضارة المصرية وللفن المصرى ولفنان مصر العظيم محمود مختار. شكراً لماهر حسن صاحب هذا الكتاب المهم.