بورسعيد: أيمن عبد الهادى فصل جديد من فصول كتاب الإهمال البغيض الذي يطل برأسه من وقت لآخر معلنًا إزهاق روح بريئة على يد طبيب مهمل أو ممرضة فاشلة. في صباح هادئ، استيقظت سلمى نبيل، السيدة البورسعيدية ذات الأعوام الثلاثين، من نومها على غير عادتها قبيل الفجر، توضأت وصلّت وهي تهمس لخالتها: «أنا قلبي مقبوض... مش عارفة ليه خايفة»، لم تكن تعلم أن تلك الكلمات ستكون آخر ما يُروى عنها بلسانها. كانت تستعد لتجربة الأمومة الثانية، حلم عمرها، وكانت تظن أنها ستعود من غرفة العمليات لتضم صغيرها إلى صدرها، لكن القدر كان يحمل مأساة لم تخطر ببال. التفاصيل المؤلمة في السطور التالية رافقتها الأسرة إلى أحد المستشفيات الخاصة الشهيرة في بورسعيد، حيث قررت إجراء الولادة القيصرية التي حددها لها طبيبها خ ن المتابع منذ شهور، التُقطت لها صورٌ في غرفة الاستقبال، كانت تبتسم رغم الخوف، تُمسك بطنها التي تحتضن الجنين، وتُرسل نظرات تطمئن بها الجميع. دخلت غرفة العمليات عند الواحدة ظهرا مضت ساعة، فاثنتان، ثم الثالثة، ولم تخرج، ساد التوتر، وظلت أسرتها تقفز بين الممرات وتسأل: «هي فين سلمى؟»، بعد 5 ساعات، خرج طبيب مرتبك الملامح، بعد طلب 4 أكياس دم، وزيهم بلازما، و12 كيلو صفائح، قال بلهجة متوترة: «حصل نزيف حاد... بنسعفها»، ثم اختفى. الوداع الصامت لم يطل الانتظار بعدها كثيرًا، إذ جاءهم الخبر كالسيف: سلمى ماتت، وقع الصمت الثقيل على رؤوس الجميع، «ماتت؟ إزاي؟ كانت كويسة، تحاليلها ممتازة، عمرها ما اشتكت»، صاحت أختها آية وسط انهيار عصبي. بعد ساعات من الصدمة، دخلت الأسرة لتغسلها، لم يُسمح بدخول أكثر من واحدة، قالت شقيقتها: «دخلت لقيت وشها أبيض زي القمر، بس عينيها كانت بتدمع.. والله عنيها فيها دمع كأنه بيحكي اللي حصل... مهما مسحته مكنش بيروح»، ووسط صرخات النساء ونحيب الأطفال، دفنت الأسرة سلمى، بلا إجابات، وبقلب مكسور. أين الطحال؟ مرت الأيام السبعة الأولى كالجحيم، وفي اليوم السابع، وبينما كانت الأسرة تتأمل صورها وتتذكر ضحكاتها، جاءت الصدمة الثانية، اكتشفت الأسرة أن الطبيب أخبرهم بعد الوفاة بأنه استأصل الطحال أثناء الولادة! لم يُوضح السبب، ولم يسلمهم العضو الحيوي، ولم يخبرهم بموضعه، تساءل الجميع: «هو إيه علاقة الطحال بالرحم؟ وإزاي يستأصل بدون علم الأسرة؟»، بل الأسوأ من ذلك، إن تقرير الوفاة لم يُسلَّم للأسرة حتى تلك اللحظة، وظل المستشفى يتهرب من الرد. قررت الأسرة فتح القبر مرة أخرى، بعد حصولهم على تصريح رسمي من جهات التحقيق، حيث نزل والدها وأشقاؤها ليعيدوا دفن جزء من جسدها فُقد لسبب مجهول، علّه ينام في سلام بجوار باقي جسدها. مقابل السكوت بينما كانت الأسرة تعاني من مرارة الفقد، وقسوة الغموض، جاءت لهم مفاجأة أخرى: أحد أصدقاء العائلة أخبرهم أن شخصًا من المستشفى عرض عليه تسوية الأمور مقابل مليون جنيه، «قالوا نلمّها ونخلصها بمليون»، هكذا روت الأسرة في محضرها، لتفتح أبوابًا من التساؤلات الموجعة: هل كان العرض مقابل حياة سلمى؟ أم مقابل عضوها المختفي؟ ولماذا كل هذا الإصرار على التسوية؟ تقدمت الأسرة ببلاغ رسمي ضد الطبيب المتابع «خ. ن»، بتهمة الإهمال الطبي الجسيم والتسبب في وفاة سلمى، وكشفت أن الجثمان وُجد عليه آثار تمزيق وكسور في القفص الصدري، وجروح عرضية غير مبررة، قال والدها: «أنا بمشي في الشارع أكلم نفسي.. واحدة من الممرضات قالتلي بنتك اتبهدلت جوه العمليات... أنا مش هسيب حقها أبدا». القصاص لسلمى سلمى التي كانت تُعد ملابس رضيعها، وتنتظر لحظة احتضانه، لم تره، الطفل لا يزال يسأل عن «ماما» ولم يُدرك بعد أن الأم التي غابت كانت ضحية إهمال طبي أو جريمة مجهولة الأركان، العائلة لم تطلب سوى القصاص، قالت شقيقتها: «إحنا مش عاوزين غير حقها.. سلمى راحت غدر، ومش هنسكت، ومش هنتنازل». التحقيقات ما زالت مستمرة، بينما الأسرة تنتظر تقرير الطب الشرعي وتقرير لجنة ثلاثية لتحديد أسباب الوفاة بدقة، وسط مطالب من الأحياء والمتوفاة، حيث قال زوجها: «لما جينا ندفن الطحال المكفن قال ابعدوا علشان الريحة الكريهة.. لكن لما فتح القبر خرج رائحة ورد ومسك، وكأن سلمي تُعلن أنها شهيدة وتطالب بحقها» اقرأ أيضا: «نسي فوطة في بطنها».. السجن سنة لطبيب جراحة بتهمة الإهمال ووفاة مريضة وسط أوجاع الأسرة المنهارة، ظهر صوت جديد يُعبّر عنهم، المحامي المعروف والمستشار القانوني عبد الله البلتاجي، محامي الجنايات بمحافظة بورسعيد، قرر الترافع تطوعًا في القضية، وقال: «أنا شفت سلمى كأنها أختي، وشعرت بوجعها وبألم أمها اللي بتبكي كل لحظة، وبأبوها اللي اتكسر وهو بيشيل الطحال ويدفنه بإيده». لم تكن علاقته بالأسرة علاقة مصلحة، بل موقفًا إنسانيًا من رجل قانون قرر أن يكون ضميرًا حيًا في قضية شغلت الرأي العام البورسعيدي. في حديثه، أصر المحامي على محاسبة كل من تورط: «إحنا مش هنوجّه الاتهام لطبيب بعينه فقط، لكن لكل من كان داخل غرفة العمليات أثناء لحظة النزيف... من أطباء وتمريض... لأن التحقيق لا بد أن يشمل الجميع حتى نعرف الحقيقة كاملة». وتابع بنبرة حاسمة: «ما فيش أي عداء شخصي ما بين الأسرة والدكاترة، بل العكس، في ود ومحبة وعِشرة سنين، لكن لما حد يغلط ويتسبب في إزهاق روح... لازم يتحاسب... ده دين في رقابنا لسلمى، ولكل سلمى دخلت غرفة عمليات وما خرجتش». وأكد المحامي عبد الله البلتاجي أن ثقته كاملة في جهات التحقيق وفي الإجراءات الرسمية التي تتبعها، وقال: «إحنا منتظرين تقرير الطب الشرعي، لأنه التقرير اللي هيحسم كل شيء... هو اللي هيكشف سبب الوفاة الحقيقي، وهل حصل تمزق في الشرايين؟ وهل الطحال اتشال بسبب خطأ جراحي؟ وليه تم استئصاله أصلًا؟». رحلت سلمى ولم ترَ رضيعها، خرجت من الدنيا ممزقة الجسد، مخدوعة بالأمان، ودُفنت مرتين؛ مرة بجسد ناقص، وأخرى بجزءها المفقود، لم تكن فقط ضحية غرفة عمليات، بل ضحية صمت طويل، وتواطؤ محتمل، ووجع لا ينتهي، وبينما تنتظر الأسرة الحقيقة، يبقى السؤال معلّقًا في الهواء: كم من سلمى تُدفن الآن دون أن نعرف؟ وكم من طبيب يمارس عمله دون رقيب؟ وهل سيأتي اليوم الذي نحاسب فيه من حولوا غرف الولادة إلى مقابر؟ وحتى يصل صوت سلمى، ستظل دموعها في الكفن، تنزف من عينيها.. وتطالب: «عاوزة حقي».