«قم وخذ الصبى وأمه واذهب إلى أرض مصر» ونفذ يوسف النجار تعليمات السماء، واختارت العائلة المقدسة أرض مصر لتكون ملاذًا آمنًا من بطش هيرودس، الذى سعى لقتل الطفل يسوع. لم يكن الاختيار محض صدفة، بل دلالة إلهية على مكانة مصر، التى عُرفت على مر العصور بوطن التسامح والتعايش بين الأديان، واحتضنت الديانات السماوية وشهدت أرضها ميلادًا جديدًا للأمل والحياة. دخلت العائلة المقدسة إلى مصر الأول من يونيو، السيدة العذراء مريم والقديس يوسف النجار والطفل يسوع، واستمرت لأكثر من ثلاث سنوات، مرت خلالها على العديد من المدن والقرى، من تل بسطا فى الشرقية إلى دير المحرق بأسيوط، مرورًا بالقاهرة، وسمنود، والمطرية، والمعادي. وعاشت العائلة المقدسة فى دير المحرق أطول فترة ستة أشهر وعشرة أيام، وأصبح الدير مكانا مقدسا لاستقبال الزائرين من مختلف المحافظات المصرية والخارج، وتتحول الصحراء المحيطة بالدير إلى ساحة كبيرة للخيام التى يبيت فيها الزائرون. لم تكن رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر مجرد حدث دينى خُلد فى كتب التاريخ، بل إعلان إلهى عن قدسية هذه الأرض، ورسالة تؤكد قدرة مصر على احتضان أبناء كل الديانات، وتوفير الأمن والسلام لكل من يلجأ إليها، وأصبحت هذه الرحلة رمزًا للتعايش الآمن ونموذجًا فريدًا لصورة مصر الحقيقية؛ وطن يتسع الجميع ويصون كرامة أبنائه دون تفرقة أو تمييز. وتوارث المصريون محبة مريم العذراء جيلا بعد جيل، ونجد صورها تزين جدران بيوت المسلمين، وتُطلق الأمهات اسم «مريم» على بناتهن تبركًا وتقديرًا لمكانتها المقدسة فى قلوب الجميع، وهذا الحب الصادق المتبادل يُسقط كل دعاوى الفرقة ويُحبط مؤامرات التشكيك. حاول الاستعمار البغيض بث سموم الفتنة فى نسيج الوطن، وسعى بكل السبل إلى زرع الشكوك وتفتيت الصفوف، لكنه اصطدم بجدار الصد الوطنى الراسخ، ففشلت مؤامرته، وتحطمت أدواته على صخرة وعى المصريين وإيمانهم بوحدتهم. وجاءت محاولات الإرهابيين فيما بعد للاعتداء على المسيحيين كحلقة أخرى من محاولات العبث بالأمن الوطني، ووقف المسلمون إلى جوار إخوتهم المسيحيين، وحموا الكنائس كما يُحمى الوطن، وشكلوا معًا درعًا بشريًا يُجسد أسمى معانى الإخاء والانتماء. مصر التى باركتها العذراء وابنها الكريم، ستظل حصنًا منيعًا، عصية على الكارهين، وموطنًا للتسامح والمحبة والسلام، الأوطان لا تبنى بالطائفية بل بوحدة القلوب وصلابة الضمائر. وفى إطار اهتمام الدولة المصرية بتعظيم هذا التراث الروحى والإنساني، أطلقت مشروعًا قوميًا لإحياء مسار العائلة المقدسة، تضمن ترميم الكنائس والأديرة الأثرية، ووضع المسار على خريطة السياحة الدينية العالمية. وتبقى مصر دائما وطنًا لا يعرف الفُرقة، وشعبًا لا تهزه الفتن، وأرضًا لا تُروى إلا بالحب، ولتعلم الدنيا أن فى مصر شعبًا واحدًا، قلبه واحد، ووطنه فوق الجميع .