يُحسب للرئيس تنشيط دور مصر وتوسيع تحالفاتها الاستراتيجية لتصبح دولة مؤثرة فى نظام متعدد الأقطاب مصر أصبح لديها شبكة من الدول المؤيدة للحق الفلسطينى والراغبة فى وقف الحرب الإسرائيلية مشروع «جريجى» للربط الكهربائى تحرك قوى لزيادة التعاون بين مصر واليونان والاتحاد الأوروبى أوروبا تنظر لمصر باعتبارها رقمًا مهمًّا فى أمن الطاقة العمالة المصرية الموسمية أبرز الرابحين من زيادة التعاون بين مصر واليونان وتجربتهم الناجحة يجب أن تكون محل دراسة باعتبارها الحل لإنهاء الهجرة غير الشرعية تعيش السياسة الخارجية المصرية عصرًا جديدًا يُمكن أن نُطلق عليه (الاتزان الاستراتيجى)، ويُمكن ترجمته ببساطة على أنه فن التعامل مع الفرقاء دون أن تُصيبك شظايا خلافاتهم، وهى بالتأكيد عملية صعبة ومُعقدة فى ظل عالمٍ يموج بالخلافات الحادة والحلول العنيفة وغياب الدبلوماسية العاقلة، إلا أن مصر تمكَّنت من تدشين مُعادلة خاصة بها، وهى أنها تقف على مسافة واحدة من كل القوى الكبرى، ولا تتدخل فى شئون أحدٍ، وأنها جادة فى العمل على الاستقرار وتحقيق المصالح المشتركة بصيغة الكل رابح من الشراكة مع مصر. اختارت مصر التعامل مع المستقبل وفق رؤية خاصة نابعة من تطورات الموقف العالمى وتحديات نشوء نظام دولى جديد تُبشِّر به مراكز الأبحاث والتفكير، وذلك بحديثها عن نظامٍ مُتعدد الأقطاب تتجه فيه الأنظار إلى القوى الإقليمية البازغة التى تُشكِّل عماد هذا النظام العالمى الجديد. والمقصود بالقوى الإقليمية فى هذا النظام هى الدول التى تمتلك ثلاثة محددات رئيسية؛ وهى: 1- امتلاك نفوذ عسكرى وتنوع فى النشاط الاقتصادى. 2- لديها قدرة على التأثير فى قرارات الإقليم الذى تُوجد فيه. 3- صاحبة ممارسة سياسة خارجية نشطة وقادرة على إنشاء تحالفات مع دول أخرى وترقيتها إلى المستوى الاستراتيجى. هذه الدول يُمكن الرهان عليها - فى عالم مُتعدد الأقطاب - فى بناء توازنات محلية وإقليمية، وأيضًا فى لعب دور «صمام الأمان» أو «اللاعب الحاسم» فى مناطقها. والدول الإقليمية القوية -وفق ذلك المفهوم- تكون مُتحرِّرة من التبعية لأى قطبٍ دولىٍّ كبير، ولديها مساحة مناورة واسعة لبناء تحالفات مع قوى مختلفة فى ملفات مُتباينة، وتستفيد بالتأكيد من التنافس بين القوى الكبرى للحصول على مكاسب وتحقيق مصالح شعوبها. وهو ما تُطبقه مصر بالفعل، ولا أُبالغ إذا قلت إنها تُقدِّم نموذجًا فريدًا لدول إقليمية رائدة، تُخاطب المستقبل بكل ما يحمله من مُتغيرات بكثيرٍ من الثقة فى قدرتها على تفادى الصدمات العالمية، وذلك بشبكة تحالفات إقليمية ودولية متنوعة ومختلفة تُحقق مصالحها وتضمن سيادتها. وأضاف الرئيس السيسى بُعدًا آخر لنجاح التجربة بمساحة الثقة والتفاهم التى استطاع الوصول إليها فى علاقاته الدولية مع قادة العالم، فهو أعلن عن رغبته فى العمل الجاد مع نظيره الأمريكى دونالد ترامب لصُنع السلام، ولبَّى دعوة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لحضور احتفال عيد النصر، وكانت القوات المسلحة المصرية حاضرةً فى طابور القوات الصديقة لروسيا. كما أن مساحة الود مع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون كانت حاضرةً فى المفاوضات الاقتصادية، وظهر حرص الرئيس على تحقيق أكبر مصلحة ممكنة للدولة المصرية بالتفاوض النشط مع الرئيس الفرنسى. وعاد الدور المصرى لإفريقيا بعد غيابٍ طويل، فكانت مصر حاضرةً بالمشروعات التنموية فى كل ربوع القارة السمراء، واحتكمت للقانون الدولى ومؤسسات الأممالمتحدة لحسم نزاعاتها. ما يُمكن قراءته من تحركات القيادة المصرية هو أن صناعة المستقبل هي الهاجس والشاغل لقيادة آمنت بأن الأمم لا تتقدَّم من فراغٍ بل بعملٍ وتخطيطٍ، وأن المكانة الإقليمية ليست خطبًا رنانةً وشعارات تُدغدغ العواطف، بل تحتاج إلى عملٍ وجهدٍ قائمٍ على التمسُّك بالثوابت، وتفهُّم مصالح كل طرفٍ، والعمل المشترك بين الدول الراغبة فى التنمية وإحلال السلام، وتسعى للحفاظ على حياة الإنسان. اقرأ أيضًا| محمود بسيونى يكتب: هندسة مصرية تتصدى لمخطط التقسيم وكانت بوصلة مصر فى كثيرٍ من الملفات الإقليمية هى ثوابتها الراسخة، فهى لن تتخلى عن القضية الفلسطينية ولا عن إقامة دولتها المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية، ولن تتخلى أيضًا عن دعم ليبيا والسودان، وتبذل فى سبيل ذلك جهودًا مضنية لترتيب أوراق الإقليم، بما يحفظ أمنه واستقراره، وفق خارطة طريق قائمة على الحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية وتقويتها، وعدم التدخل فى شئون الآخرين، والبحث الدائم عن تحقيق المصالح المشتركة. يُحسب للرئيس السيسى إنعاش علاقات مصر مع العالم، وتوسيع شبكات تحالفاتها الإقليمية والدولية، وأهمها فى تقديرى تنشيط العلاقات المصرية الروسية بالاتفاق مع موسكو على تنفيذ مشروع الضبعة النووى، وإنشاء المنطقة الصناعية الروسية بالمنطقة الاقتصادية بقناة السويس، وزيادة التبادل التجارى بين البلدين، فضلًا عن جذب الروس للمقاصد السياحية المصرية، والاتفاق المصرى الروسى على أهمية التهدئة فى الشرق الأوسط، ورفض التهجير القسرى لسكان قطاع غزة. اقرأ أيضًا| محمود بسيوني: «الإخوان» تستخدم الحرب النفسية والأكاذيب لزعزعة الاستقرار وقبل توجُّه الرئيس إلى روسيا، قام بزيارة ناجحة إلى اليونان، وهى دولة داعمة لمصر داخل الاتحاد الأوروبى، وقد تابعت لقاءات الرئيس مع كبار المسئولين هناك، وفى مقدمتهم رئيس الوزراء اليونانى كيرياكوس ميتسوتاكيس، والذى أعرب عن تقديره الكبير لمصر وللرئيس السيسى، والذى أعطى دفعة وزخمًا كبيرًا للعلاقات المصرية اليونانية، وخاصة فى السنوات العشر الأخيرة، وذلك عبر عدد من المحاور والمحددات؛ وهى: 1- البناء على العلاقات التاريخية العميقة بين مصر واليونان صاحبتى أقدم حضارتين فى العالم، وارتباط كثيرٍ من اليونانيين بمصر، والتى عاش فيها آباء وأجداد الأجيال الحالية، ولذلك كانت مبادرة العودة إلى الجذور مُؤثِّرة للغاية فى التقارب بين الشعبين المصرى واليونانى. 2- ترسيم الحدود البحرية وما نتج عنه من اكتشافات للطاقة، أسهم فى تحقيق معدلات تنمية استفادت منها الدولتان. 3- تدشين منتدى غاز المتوسط بتعاونٍ ثلاثى بين كل من مصر واليونان وقبرص، ثم انضمت دولٌ أخرى من بينها الولاياتالمتحدة وفلسطين وإسرائيل، والذى أصبح من أهم التجمعات الجيوسياسية فى الشرق الأوسط، حيث يسعى لتجميع الفرقاء عبر دبلوماسية الغاز، ووقف الصراع من أجل حماية التنمية. 4- آلية التعاون الثلاثى بين مصر واليونان وقبرص، والتى انعقدت عشر مرات، وكان لها تأثيرات اقتصادية إيجابية على الدول الثلاث، وصنعت فارقًا فى العلاقات. اقرأ أيضًا| بسيوني: العلاقات المصرية الخليجية في الوقت الحالي في أقوى صورها 5- تدشين مجلس رفيع المستوى للتعاون المصرى - اليونانى، والذى يُعدُّ نقلة نوعية فى مسار العلاقات بينهما، ويُجسِّد إصرار الدولتين على الارتقاء بمستوى التنسيق والتعاون الثنائى. وحرصًا من الرئيس السيسى على سلامة العلاقات واستدامة الثقة، ومن أجل إغلاق أى مسارٍ للحديث حول موضوع دير سانت كاترين، والذى يحظى باهتمامٍ كبير من الجانب اليونانى، أكد الرئيس أن مصر تحترم التعدُّد والتنوُّع الموجود فى النسيج الإنسانى، وعبَّر عن انزعاجه مما تردد عن وجود إجراء سلبى تجاه دير سانت كاترين، مؤكدًا تعارض ذلك مع ثوابت مصر وتسامحها، ومشددًا على عدم سماح مصر بالعبث فى العلاقات مع اليونان، وأن تعاقد الدولة مع الدير أبدىٌّ ولن يتم المساس به. وأشار الرئيس فى كلمته أمام القادة اليونانيين إلى الأهمية البالغة التى يحظى بها مشروع «جريجى» للربط الكهربائى بين مصر واليونان، واعتباره خطوة استراتيجية ذات أبعادٍ إقليمية ودولية، باعتباره أول ربط مباشر للطاقة النظيفة القادمة من مصر إلى أوروبا عبر اليونان، لافتًا إلى الاهتمام ودعم الاتحاد الأوروبى لهذا المشروع الطموح، وداعيًا لتسريع خطوات تنفيذه. وخلال زيارته التقى الرئيس بعددٍ من أصحاب الشركات اليونانية لمناقشة تنفيذ المشروع، وبحسب السفير محمد الشناوى، المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، فقد اجتمع الرئيس مع ديميتروس كوبولوزيس، رئيس مجموعة شركات كوبولوزيس اليونانية للكهرباء، وتناول الاجتماع اهتمام مصر بالمشروع باعتباره إحدى ركائز تأمين الطاقة للدول الأوروبية انطلاقًا من مصر، واعتباره مرتكزًا أساسيًا للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين مصر والاتحاد الأوروبى، وبيان حرص مصر على دعمه بكل السُّبل، فضلًا على أنه أفضل تسويق لإمكانيات مصر فى مجال الطاقة النظيفة والمتجددة، لا سيما من الرياح والطاقة الشمسية، واهتمام بالتحوُّل لتكون مصر مركزًا إقليميًا لتداول الطاقة بمختلف أنواعها. ومما لا شك فيه أن العمالة المصرية الموسمية تُعدُّ أبرز الرابحين من زيادة أُفق التعاون بين مصر واليونان، لأنه بموجب اتفاق استقدام العمالة الموسمية المصرية للعمل فى القطاع الزراعى باليونان أصبح الطريق الشرعى لتحرك العمالة من مصر إلى اليونان ممهدًا، وذلك بدلًا من ركوب أمواج الموت فى الهجرة غير الشرعية، وقد سعى الرئيس مع القادة اليونانيين لتوسيع نطاق الاتفاق ليشمل قطاعات أخرى، وهى تجربة جيدة يُمكن استثمارها بعد ذلك وتسويقها لدى دول أوروبية أخرى تحتاج إلى العمالة المصرية فى كثيرٍ من المجالات، وتبحث عن وسيلة لاستقدام العمالة دون أن تُؤثِّر على تركيبتها الداخلية. وكان الملف الفلسطينى حاضرًا على مائدة المباحثات المصرية اليونانية، فكان التطابق فى المواقف حاضرًا، حيث إن اليونان من أهم داعمى الجهود المصرية لوقف إطلاق النار، وأن تطبيق حل الدولتين هو الذى يُؤدى إلى السلام، وإنشاء الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967. كما رفضت اليونان وأدانت أية محاولات لتهجير الشعب الفلسطينى من أرضه، تحت أى ذريعة، وأعلنت دعمها للجهود المصرية من أجل التسوية العادلة والشاملة للقضية الفلسطينية، وبما يضمن استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية. وكان على مائدة اللقاء أيضًا بحث جهود التهدئة الحالية فى منطقة شرق المتوسط، واستثمار الأجواء الإيجابية الحالية لحل الخلافات القائمة بين الدول المُتشاطئة، بما يُتيح للجميع تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية لصالح شعوب المنطقة. وإجمالًا نحن أمام استثمارٍ ناجحٍ للعلاقات المصرية مع دولة إقليمية مهمة مثل اليونان لها ثقلها داخل الاتحاد الاوروبى وفى شرق المتوسط، وتمتلك طموحات فى ظل عالم جديد يتشكَّل، وكذلك علاقات قوية مع دولة عظمى مثل روسيا تسعى لإيجاد مساحات مشتركة مع الدور المصرى الإقليمى الساعى للتهدئة والتنمية والاستقرار، وهو دور يُعلى من قيمة المشروعات الكبرى الهادفة لتحسين أحوال الشعوب، وفق رؤية إنسانية تُقدِّس الحياة، وتُعلى من شأن القانون الدولى الإنسانى كأساسٍ لحل أى نزاعٍ، وذلك بعيدًا عن لغة الحرب والدمار السائدة فى عالمنا الآن. وربما للغة الشعر نصيبٌ فى وصف الحالة الرائعة للعلاقات بين الدول صاحبة الحضارة القديمة مثل مصر واليونان، والتى تُمثِّل جسرًا للصداقة بين الشرق والغرب، وهى قصيدة لشاعر الإسكندرية اليونانى الأصل كفافيس، والذى قال فى قصيدته شموع: أيامنا المقبلة تقف أمامنا كصف من الشموع المشتعلة شموع صغيرة ذهبية، دافئة، متوهجة.. والتوهج هو حال العلاقات المصرية اليونانية التى استعادت فى عهد الرئيس السيسى زخمها ورونقها وقدرتها على تحقيق مصالح شعوبها.