شهدت العلاقات المصرية اليونانية نقلة نوعية عقب انعقاد أولى جلسات مجلس التعاون رفيع المستوى بين اليونان ومصر بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسى ورئيس الوزراء اليونانى، كيرياكوس ميتسوتاكيس، واتفاق الزعيمين على مواصلة تعزيز وتنمية العلاقات الثنائية وتطويرها فى مختلف المجالات، خاصة الطاقة، التبادل التجارى، والتعاون الاقتصادى وهو ما سنرى ترجمته عملياً خلال الفترة القادمة من خلال تدشين عدد من المشروعات الضخمة فى مجالات الطاقة النظيفة والتعاون السياحى. نحن أمام نموذج مميز وناجح للشراكة الرابحة بين دولتين لديهما ثقل إقليمى كبير يستند إلى إرث حضارى ضخم ويجمعهما تاريخ مشترك ضارب فى جذور الزمن ، وعلاقات ثقافية ممتدة على مدى قرون ، وقد نجح الرئيس السيسى فى توظيفها لتدشين بداية جديدة للعلاقات تستجيب لحتمية التلاقى الجغرافى وتوظيفه لخدمة البلدين والشعبين . للعلاقات المصرية اليونانية خصوصية شديدة حيث كانت اليونان من أكثر الدول الأوروبية الداعمة لمصر عقب نجاح ثورة 30 يونيو، واختار رئيس الوزراء اليونانى «كيرياكوس ميتسوتاكيس» مصر لتكون أول دولة فى منطقة الشرق الأوسط يقوم بزيارتها بعد إعادة انتخابه فى يوليو 2023، كما دعمت اليونان اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين مصر والاتحاد الأوروبى. وأسهم منتدى غاز شرق المتوسط فى تعميق الشراكة بين مصر واليونان، حيث تحول المنتدى الى منصة إقليمية مهمة لتعزيز التعاون بين دوله الأعضاء فى مجال الطاقة. فضلا عن التأثير القوى لآلية التعاون الثلاثى التى تضم مصر واليونان وقبرص وما توفره من فرص استثمارية للقطاع الخاص بين البلدان الثلاثة . يمكن تمييز نمط ثابت لشراكات مصر الناجحة مع دول حوض المتوسط ، حيث تقوم على التعاون فى تنفيذ مشروع قومى كبير يربط البلدين والشعبين ويحقق مصالحهما المشتركة فى استدامة التنمية والاستجابة لمتطلبات السوق العالمى . وفى المقابل كانت اليونان تبحث عن شريك يمكنها الاعتماد عليه فى توفير احتياجاتها من الطاقة وتحديدا النظيفة للمحافظة على البيئة، وقد وجدت الفرصة فى الشراكة مع مصر فى أكبر مشروع للربط الكهربائى بين البلدين والذى يعتمد على تصدير مصر للطاقة النظيفة وهو المشروع الذى وجد دعماً أوروبياً كبيرا حيث إن دول القارة تبحث عن تنويع مصادر الطاقة والتوجه إلى الطاقة النظيفة الرخيصة والتخلص من مصادر الطاقة الملوثة للبيئة. وتتعامل اليونان مع المشروع باعتباره مشروعا استراتيجيا يضمن أمن الطاقة لها ولباقى دول أوروبا المشغولة حاليا بمسألة أمن الطاقة فى ظل الصراعات المحتدمة داخل أوروبا والانعزال الأمريكى وتأثيرات ذلك السلبية على أسعار الطاقة ويزيد من جراح اقتصادات دول القارة العجوز، ولذلك أصبح الاستثمار فى الطاقة الخضراء والاستفادة من قدرات مصر وامتلاكها لمصادر طاقة متعددة محط انظار أوروبا. ويهتم الجانب اليونانى أيضا على مستوى رجال الأعمال بالاستثمار القائم على السياحة الثقافية داخل مصر وهناك حالة من الترقب لافتتاح المتحف المصرى الكبير، حيث يمكن تنظيم نشاط سياحى يضم المقاصد الثقافية مثل المتاحف والمعابد الفرعونية واليونانية فى القاهرة وأثينا والاستفادة من تعدد رحلات الطيران بين البلدين لعمل برامج والتسويق لها حول العالم وهو مشروع رابح بالتأكيد إذا ما تم الشروع فيه واليونان تمتلك خبرات مميزة فى تنظيم البرامج السياحية. وإذا ما انتقلنا إلى المجال السياسى سنجد أن اليونان تمثل الحليف الأقرب للقاهرة خاصة مع الإشادة اليونانية المتكررة بالجهد المصرى لوقف الصراع فى غزة وكذلك تنسيق المواقف المشترك فى كثير من القضايا الإقليمية والدولية التى تهم مصر واليونان، وقد شاركت اليونان بفاعلية فى قمة السلام التى استضافتها القاهرة وكذلك مؤتمر تعزيز الاستجابة الإنسانية فى ديسمبر الماضى. وكان لمبادرة إحياء الجذور أثر إيجابى فى تعزيز الروابط الثقافية والإنسانية بين شعوب مصر واليونان وقبرص وفتحت الباب أمام زيارات اليونانيين الذين عاشوا فى مصر إلى مدنهم السابقة وهو ما ثمّنه الجانب اليونانى كثيرا وعزز من مفهوم الشراكة الاستراتيجية بين الحكومات والشعوب. وقد نجحت الشراكة أيضا فى توفير مسار قانونى للهجرة الشرعية ونقل وتنظيم حركة العمالة المصرية إلى اليونان، من خلال التوقيع على اتفاق استقدام العمالة الموسمية المصرية للعمل فى القطاع الزراعى فى اليونان، والذى يستهدف استقدام 5 آلاف من العمالة الزراعية المصرية كمرحلة أولى وهو ما وفر فرص عمل مصرية لائقة فى اليونان بدلا من تهديد حياتهم فى مراكب الموت. انعقاد مجلس التعاون رفيع المستوى المصرى اليونانى واللقاءات المستمرة بين قادة مصر واليونان يدشن لمرحلة أرقى من التعاون الوثيق بينهم واستفادة أعلى من التقارب الجغرافى والإرث التاريخى والحضارى المشترك والذى يتعزز بمصالح اقتصادية تجلب الأرباح للجميع وتضمن التعاون فى مجالات عدة تعزز من مفهوم الشراكة الرابحة ذات المسارات المتعددة وتوفر فرصا باستمرار أمام القطاع الخاص فى القاهرة وأثينا ويقدم نموذجا ناجحا للشراكة والتحالف فى العديد من الملفات خاصة فى التنمية المعتمدة على الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة، ويضمن التفاهم المشترك توفير المناخ الملائم لنمو تلك الاستثمارات فى ظل التحديات الإقليمية الصعبة والدقيقة.