يعد الاقتصاد غير الرسمى أحد أكثر التحديات تعقيدًا التى تواجه الاقتصاد المصرى فى الوقت الراهن، ليس فقط لحجمه الضخم الذى يقترب من نصف الناتج المحلى الإجمالي، بل لما يمثله من تشوه هيكلى عميق فى بنية الاقتصاد الوطني، هذا القطاع الذى يعمل خارج مظلة الدولة، لا يخضع لأى نظم رقابية أو ضريبية أو تنظيمية، ما يجعله بيئة خصبة للمخالفات، ومصدرًا لنزيف متواصل فى موارد الدولة، سواء من خلال فقدان الحصيلة الضريبية، أو استنزاف الدعم الموجه للقطاعات الرسمية. ولعقود طويلة، نما الاقتصاد غير الرسمى ومع مرور الوقت، أصبح هذا القطاع بمثابة اقتصاد موازٍ له قواعده وأنظمته الخاصة، يستوعب ملايين العاملين من الفئات المهمشة، ويخترق كافة القطاعات تقريبًا: من النقل والصناعة والتجارة إلى الحرف اليدوية والمهن الحرة والخدمات. الخطورة لا تكمن فقط فى غياب العائد الضريبى من هذا الاقتصاد، وإنما فى الآثار الاجتماعية والاقتصادية الأعمق، مثل ضعف شبكات الحماية الاجتماعية، وغياب تأمينات العمل، وانتشار المنتجات الرديئة وغير المطابقة للمواصفات، وتشويه بيئة المنافسة أمام المشروعات الرسمية التى تلتزم بالقوانين وتتحمل الأعباء المالية والتنظيمية. مع تصاعد الضغوط على الموازنة العامة للدولة، وزيادة متطلبات الإنفاق على البنية التحتية والدعم والخدمات العامة، أصبح من الضرورى بل والملح وضع خطة شاملة ومحددة بجدول زمنى لدمج هذا القطاع داخل المنظومة الرسمية، ولأن الأمر لا يتعلق بمجرد فرض الضرائب أو تطبيق العقوبات، فإن الحلول يجب أن تكون ذكية ومتوازنة، تقوم على مبدأ «الاحتواء بالحوافز» من خلال تقديم مزايا واقعية للمشروعات غير الرسمية لتشجيعها على الدخول الطوعى فى الاقتصاد الرسمي. فى هذا السياق، ترصد «الأخبار» آراء عدد من أبرز الخبراء الاقتصاديين الذين طرحوا رؤيتهم لمعالجة هذا الملف الشائك، عبر حزمة من المقترحات التى تستند إلى الخبرة الواقعية والدراسات الميدانية، وتضع أمام صانع القرار خريطة طريق للخروج من أزمة «اقتصاد الظل» نحو اقتصاد منظم، منتج، وعادل. تداعيات سلبية حذر الدكتور هشام إبراهيم، أستاذ التمويل والاستثمار، من التداعيات السلبية للاقتصاد غير الرسمى على مؤشرات الاقتصاد القومي، مشيرًا إلى أنه يمثل نسبة كبيرة من حجم الاقتصاد الكلى ويساهم بشكل كبير فى الإنتاج، دون أن ينعكس ذلك على المؤشرات الاقتصادية الرسمية. وأوضح إبراهيم أن من أبرز أضرار هذا القطاع ضياع حقوق العاملين فيه، سواء من حيث التأمينات الاجتماعية أو الرواتب، فضلًا عن الأضرار التى تلحق بالمستهلك نتيجة تداول منتجات غير مطابقة للمواصفات، ما يعرض حياتهم للخطر، خاصة فى القطاعات التى تمس السلامة العامة مثل مستلزمات الإنتاج وقطع غيار السيارات. وأشار إلى أن «منتجات بير السلم» رغم انخفاض أسعارها الظاهري، إلا أن تكلفتها الحقيقية على المستهلك تكون أعلى بسبب ضعف الجودة والمخاطر الصحية، بالإضافة إلى الخسائر التى تتحملها الدولة نتيجة استهلاك هذه الأنشطة للمرافق العامة كالكهرباء والمياه دون رقابة أو مقابل عادل، ما يؤدى إلى إهدار مليارات الجنيهات سنويًا. وأكد خبير التمويل والاستثمار أن دمج الاقتصاد غير الرسمى فى المنظومة الرسمية سيحقق فوائد كبيرة، منها مضاعفة معدلات النمو، وتحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي، وخفض معدلات البطالة، ورفع مستوى التنمية. ودعا إبراهيم إلى اتباع سياسة «الترغيب بدلًا من الترهيب» لجذب أصحاب الأنشطة غير الرسمية، من خلال حوافز تشمل توفير التمويل والقروض الميسرة، وتقديم برامج تدريب مجانية للعاملين، إلى جانب إعفاءات ضريبية مؤقتة لتشجيعهم على الانضمام إلى الاقتصاد الرسمي. اقرأ أيضًا | في حوار مع بسمة وهبي.. محمود بسيوني يكشف ملامح تعاون مصري يوناني يعزز الاقتصاد الإقليمي خطة زمنية اما الدكتور مصطفى بدرة، الخبير الاقتصادي، فأكد أن ملف الاقتصاد غير الرسمى يُعد من أكثر القضايا الاقتصادية الشائكة التى تواجه الدولة، نظرًا لحجمه الكبير وتعقيدات دمجه فى المنظومة الرسمية، مشيرًا إلى أنه يمثل نحو 50% من حجم الاقتصاد الكلي. وأوضح بدرة أن أصحاب هذا القطاع يقاومون محاولات الدمج والتقنين بسبب اعتيادهم على العمل خارج الإطار القانوني، ما يجعله بيئة خصبة للمخالفات والانتهاكات، وهو ما يتضح من الأسماء التى يُطلق عليه، مثل «الاقتصاد الموازي»، و»بير السلم»، و»الأسود»، و»الخفي». التوك توك والتطبيقات الذكية وأضاف أن هذا القطاع غير الخاضع لرقابة الدولة يُفقدها مليارات الجنيهات سنويًا، سواء من خلال التهرب الضريبى أو استهلاك الدعم دون وجه حق، مستشهدًا بمنظومة النقل غير الرسمى مثل «التوك توك»، الذى يتجاوز عدد وحداته 10 ملايين، وتعمل دون تراخيص أو رقابة، وتستهلك جزءًا كبيرًا من المواد البترولية المدعمة دون أن تدر أى عائد ضريبي. وأشار بدرة إلى أن وسائل النقل الذكية مثل خدمات توصيل الركاب عبر التطبيقات الإلكترونية، لا تخضع هى الأخرى لأى حصر دقيق أو رقابة ضريبية، ما يُعد نموذجًا آخر للهدر فى موارد الدولة، فضلًا عن قطاع الثروة العقارية، حيث لا يخضع عدد كبير من المؤجرين لأى منظومة ضريبية. وفيما يتعلق بقطاع الأغذية، شدد على ضرورة تعديل القوانين المنظمة، لتشمل الغلق الفورى للمحال فى حال تكرار مخالفات اشتراطات السلامة الغذائية، كما دعا إلى تقنين أوضاع «مصانع بير السلم» والباعة الجائلين وغيرهم ممن يشكلون عبئًا كبيرًا على الدولة، سواء على مستوى البنية التحتية أو الدعم. وأكد الخبير الاقتصادى أن الدولة تجنى نحو تريليون جنيه سنويًا من الضرائب، يُوجه منها ما يقرب من 640 مليارًا للدعم، فى حين أن القطاع غير الرسمي، الذى يمثل نصف الاقتصاد، يستفيد من هذا الدعم دون أن يسهم فى تمويله، مما يمثل خللًا هيكليًا فى العدالة الاقتصادية. واختتم بدرة تصريحاته بالتأكيد على أن الحل يكمن فى تعميم الفاتورة الإلكترونية على كافة التعاملات، بدءًا من أبسط الخدمات كالحلاقة، ووصولًا إلى شراء السيارات الفارهة، لضمان دمج القطاع غير الرسمى بشكل تدريجى فى الاقتصاد القومي، مطالبًا بوضع خطة زمنية واضحة لتطبيق هذا الدمج. شريان حيوي قال الدكتور على الإدريسي، الخبير الاقتصادي، إن الاقتصاد غير الرسمى يمثل معضلة مزمنة فى معظم الدول العربية، وعلى رأسها مصر، موضحًا أن جذور هذه الظاهرة تعود إلى عقود من غياب التنظيم وفقدان الثقة المتبادلة بين المواطن والدولة. وأشار الإدريسى إلى أن هذا القطاع، رغم كونه شريانًا حيويًا لملايين المواطنين الذين لا يجدون فرصًا فى القطاع الرسمي، إلا أن استمراره خارج إطار السياسات العامة والرقابة يمثل خطرًا حقيقيًا على الاقتصاد الوطني، خاصة فى ظل تقديرات تشير إلى أنه يساهم بنسبة تتراوح بين 40% و50% من الناتج المحلى الإجمالي. ملايين العاملين وأوضح أن هذا القطاع يضم ملايين العاملين فى الورش الصغيرة، والمحلات التجارية، والأعمال الحرة، والباعة الجائلين، دون أن يسهم بشكل مباشر فى الإيرادات الضريبية، أو يخضع لنظام العمل الرسمي، ما يخلق فجوة مالية ضخمة ويحرم الدولة من موارد مهمة لتمويل الخدمات الأساسية. وحذر الإدريسى من تداعيات غياب الأطر القانونية والتنظيمية لهذا القطاع، حيث لا يحصل العاملون فيه على أى ضمانات اجتماعية أو صحية، مما يجعلهم عرضة للتهميش والفقر، كما أن استمراره فى الظل يؤدى إلى تشويه المنافسة، إذ تتحمل المؤسسات الرسمية أعباءً ضريبية وإدارية لا تفرض على نظرائها فى القطاع غير الرسمي، ما يؤثر سلبًا على استقرار السوق ونموه. وأكد الإدريسى أن دمج الاقتصاد غير الرسمى لم يعد ترفًا، بل ضرورة وطنية لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، مشيرًا إلى أن الحكومة لا يمكنها وضع سياسات فاعلة أو تخطيط استراتيجى حقيقى فى ظل غياب بيانات دقيقة عن نصف حجم الاقتصاد. وشدد على أهمية تبنى مقاربة ذكية تقوم على الحوافز لا العقوبات، تبدأ بتسهيل إجراءات الترخيص، ومنح إعفاءات ضريبية مؤقتة، وتوفير التمويل الميسر، إلى جانب تعزيز الثقة وتوسيع نطاق الرقمنة لتبسيط المعاملات الحكومية وتشجيع الأفراد على الانضمام للمنظومة الرسمية دون تعقيد أو خوف. وختم الإدريسى حديثه بالتأكيد على أن استمرار هذا «الاقتصاد فى الظل» يمثل عبئًا يهدد الاستقرار والعدالة الاقتصادية، داعيًا إلى تحوله إلى قوة إنتاجية فاعلة تساهم فى النمو بدلًا من أن تظل عبئًا خفيًا يعرقل الإصلاح والتنمية.