«.. وكانت استطراداته بعيداً عن النص المعد للخطاب أجمل وأبلغ من الخطاب الأصلى، يدعمها طلاقته وأداؤه»التمثيلى» المبهر..» من هنا كانت البداية، ليست بداية السياسى؛ فيبدو أنه ولد سياسياً، لكن بداية الوطنى المكافح ضد الاحتلال والمتعاونين معه من أهل السياسة والحكم. الثلاثاء: ورقة 1 «هروب» منتصف الأربعينيات والسادات شاب فى عز شبابه، محبوس على ذمة قضية اغتيال أمين عثمان عميل الإنجليز. فى سيارة الترحيلات بطريقها للمحكمة، كان يجلس بجوار السادات أحد ضباط السجون، شاب وسيم رياضي، يعشق بلده، ودار الحوار الهامس بين الضابط والسجين.. سأله: «إنت تهمتك إيه؟»، فرد السادات: «كنت ظابط، واترفدت، وأنا هنا علشان قضية وطنية». جملة لفتت انتباه الضابط الوطنى واستدعت تعاطفه، فهمس فى أذن المتهم المرحّل: «أنا معاك.. بس الموضوع يفضل بينّا». انتهت المحاكمة، وعاد السادات لسيارة الترحيلات، وفجأة وجد الضابط صلاح يقول له: «أنا فكرت وهساعدك». وبالفعل حاول الضابط صلاح أن يسهّل خروج السادات أكثر من مرة: الأولى من سجن مصر العمومي.. وفشلت. والثانية من محكمة باب الخلق.. وأيضاً فشلت. وأخيراً كانت الثالثة من مستشفى المنيرة.. ونجحت. هرب السادات والذى ساعده هو الضابط الشاب الذى انقلبت دنياه وكاد يتعرض لمحاكمة عسكرية لولا تدخل حيدر باشا، وزير الحربية، الذى كان يحبه ويتوسم فيه «بطل ملاكمة» ونموذجاً للضابط الشريف. وأغلقت القضية، وانتقل الضابط صلاح ليدرّس فى كلية البوليس. وبعد قيام الثورة ونجاحها لم ينس السادات الضابط الوطنى الذى هرّبه وتعرض للخطر بسببه، وحاول رد الجميل بتعيين الضابط مديراً تنفيذياً لمنظمة الشعوب الإفريقية والآسيوية، لكن الضابط كان قد اختار سبيلاً آخر لحياته، فالضابط الملازم صلاح الدين أحمد مراد، لم يكن إلا الفنان صلاح ذو الفقار الذى احترم السادات رغبته فتركه للفن بعيداً عن السياسة والمناصب. الأربعاء: ورقة 2 «مزرعة الموز» كانت قضية مقتل أمين عثمان وهروب السادات من المعتقل بداية رحلة من التنقل بين أماكن عدة، وتقمص شخصيات مختلفة متباينة أجاد السادات أداءها، ولِمَ لا، وقد كان هاوياً للفن كادت خطواته تقوده للتمثيل، لولا أن الفنان زكى طليمات أجهض ذلك برفض إجازة السادات ممثلاً! وبين أماكن كثيرة تنقل بينها وتخفى فيها من أقصى قبلى إلى قلب بحرى والدلتا، كانت قريتى «نكلا العنب» مستقراً لعدة أسابيع من رحلة هروبه، وتنقله بين أكثر من مكان، وتنكره فى أكثر من شخصية حطت به رحال رحلة التخفى فى قريتنا وقامت باستضافته وإيوائه عائلة دبوس، وهى أعرق عائلات القرية سياسياً واقتصادياً، وكثير من أبنائها تولوا العديد من المناصب البرلمانية قبل الثورة وما بعدها، وكان لعائلة دبوس العريقة محلج للقطن أقصى شرق القرية من الناحية القبلية، يقال إنه كان أقدم محلج للقطن على مستوى مصر، ومازالت أطلاله شاهدة عليه، وفى هذا المحلج كانت إقامة السادات، باستضافة عائلة دبوس وتكفلها برعايته وحمايته وإقامته. الزمان: نهار 15 مايو 1979، والمناسبة: الاحتفال بعيد ثورة التصحيح التى قام بها الزعيم الراحل محمد أنور السادات، والحدث الأكبر فى تاريخ القرية أن زعيم مصر ووزراءها وأعضاء مجلس الشعب جميعاً على موعد للقاء بقريتى. كنت وقتها أستعد لامتحانات الثانوية العامة بعد عامى الأول الذى فارقت فيه بلدى واستقر بى الأمر تماماً بالقاهرة. لكننى سافرت للقرية فى معسكر مذاكراتى بحت، استعداداً للنقلة الأخطر فى تاريخ كل طالب مصرى من الثانوية للكلية. وكنت حريصاً بالطبع على السفر إلى القرية فى تلك المناسبة، لأكون وسط أبناء القرية فى تلك المناسبة الفريدة، وطار بى الخيال إلى سنين تالية تخيلتنى بعدها واحداً ممن تفخر بهم وتتحدث عنهم القرية، وكان خيالاً لا يحاسب صاحبه على أى حال، ومن حق كل حى أن يحلق فى الخيال، وليس بالضرورة أن يدرك ذلك الخيال. فى ذلك الوقت كان محافظ الإقليم ابن «نكلا العنب» الراحل الدكتور حسين كامل دبوس، وهو واحد من الفروع الأصيلة لتلك العائلة العريقة، وكان قبلها محافظاً للفيوم من عام 1974 حتى 1978، السنة التى عين فيها محافظاً لمحافظته بين أبنائها وأبناء قريته وعزوته. وبعد تمهيد الطريق الأسفلتى إلى القرية، وحل مشكلة وصول الوزراء والضيوف براً بالسيارات لم يكن متبقياً سوى كيفية نزول طائرة الرئيس بالقرية ذات الطبيعة الترابية، ولا مساحة واسعة تستطيع توفير مهبط آمن للطائرة، ليكون الحل أولاً بأن يستقل الرئيس طائرة عمودية هليكوبتر تحمل عدداً قليلاً من المرافقين، وتوفير مهبط بجوار السراى الذى تمتلكه عائلة دبوس فى أقصى شرق القرية من الناحية القبلية. وفى نفس السراى نزل الخديو عباس حلمى، ثم الزعيم مصطفى كامل عام1900، وكان الحل الوحيد لمهبط الطائرة هو التضحية بمساحة تبلغ عدة أفدنة من أجود زراعات الموز، كانت تلك المساحة مزروعة بأشجار الموز المنتجة، لكن يبدو أنها كانت الأنسب من ناحية الموقع، وصلابة التربة المتماسكة، كى تهبط عليها الطائرة؛ فى مواجهة السراى، والمخيم الضخم الذى أعد جزء منه للخطاب التاريخى، وجزء لمكان الأكل كى يستوعب الرئيس ومرافقيه جميعا، وأيضاً بالقرب من المحلج الذى أوى إليه السادات وقت بقائه بالقرية، ولتكون الأمور هكذا فى تمام الاستعداد للزيارة التاريخية التى توافرت أسباب نجاحها بروح الوفاء لدى السادات، وروح الترحيب من القرية وعائلة دبوس. وكان وقت الطعام قد حل بعد انتهاء الخطاب فى مكان أعد بمخيم كبير، يتناسب مع أريحية السادات وبساطته، فلم تكن هناك ترابيزات سفرة، ولا كراسى لجلوس الضيوف، وظنى أن الرئيس السادات رحمه الله بحسه الريفى وبساطته المعروفة هو من طلب ذلك، وتم التنفيذ كما أعد له، لتنتهى ساعات الزيارة، ويغسل الضيوف أياديهم، ويركب الرئيس طائرته، ويستقل المرافقون سياراتهم، ويفاجأ أهالى القرية بالمحافظ يأمر بفتح الأبواب لهم كى يدخلوا المخيم، ويتناولوا الطعام، وكنت من بين من دخلوا لنجد جلسة عربية بسيطة عبارة عن مجموعة من الوسائد والمراتب القطن المرصوصة على الأجناب، تتوسطها مجموعة من «الطبالى» البلدى، تعلوها صوانى الطعام، الذى كان عبارة عن الطبق القومى للبلدة «أبرمة الأرز المعمر»، ومعها سلطة فواكه كنت أذوقها للمرة الأولى فى حياتى، وبعض المخللات لزوم فتح الشهية، لكن طبعاً كان «برام الأرز المعمر» مختلفاً عن البرام المتواضع لأهل البلدة، حيث كان عبارة عن ثلث للأرز، والباقى لحم شهى من عدة ذبائح نحرت على شرف الرئيس ومرافقيه، ونال بعضاً معقولاً منها أهل البلدة، وأكلت بين من أكلوا، وفى أفمامنا لذة الطعام، وعلى ألسنتنا مثل فلاحى يقول: «ليلتك سعيدة يا ضيف.. قال عليك وعلى عيالك». الخميس: ورقة 3 «سيدنا الشيخ» هذه الروح من الوفاء للأشخاص والأماكن كانت مما يأسرنى فى شخصية السادات رحمه الله، فضلاً عن خطاباته وأدائه لها بتمكن نابع من حفظه للقرآن الكريم، وكانت استطراداته بعيداً عن النص المعد للخطاب أجمل وأبلغ من الخطاب الأصلى، يدعمها طلاقته وأداؤه»التمثيلى» المبهر. ولابد هنا من استدعاء حكاية وفائه للشيخ الذى قام بتحفيظه القرآن فى صغره، فقد كان السادات حريصاً كل الحرص عند تواجده فى قريته ميت أبوالكوم أن يرسل السيارة الخاصة به إلى الشيخ عبدالحميد عيسى، ليجلس معه، ويتبادلا الحديث والذكريات، بل إنه تم صنع كرسى بمواصفات معينة، بتعليمات السادات للشيخ عبدالحميد عيسى، ليستقبله عليه، والكرسى موجود حتى الآن بمتحف السادات بقرية ميت أبو الكوم، ويعد من أبرز مقتنيات المتحف. الجمعة: ورقة أخيرة قال عنه إبراهيم باشا عبد الهادى رئيس وزراء مصر فى عهد الملك فاروق: «لا تستهينوا بهذا الشاب، يكاد يكون الوحيد بينهم الذى يعرف سياسة»، قالها الرجل تمييزاً للسادات عن رفاقه من أعضاء الجمعية السرية التى نفذت اغتيال أمين عثمان. وظل السادات يعوده فى مرضه بعد الثورة، ويقبل يده لكبر سنه ومقامه.