في الوقت الذى كان العالم يراقب فيه إجراء الجولة الثالثة من المحادثات بين إيرانوالولاياتالمتحدة فى مسقط، مع عجلة سياسية تظهرها واشنطن للتوصل إلى اتفاق لاسيما مع اقتراب انتهاء المائة يوم الأولى من ولاية الرئيس دونالد ترامب، حدث انفجار مفاجئ داخل الجمهورية الإسلامية، صباح السبت الماضي، بميناء «الشهيد رجائى» فى إيران، إلا أن الحرائق ظلت مشتعلة لليوم التالى وسط مساعٍ من الحكومة الإيرانية لمحاولة السيطرة عليها، مما أسفر عن 25 قتيلا وإصابة أكثر من 800 فى حصيلة مرشحة للارتفاع، ودعا الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان، إلى فتح تحقيق فى الانفجار الضخم مشددا على ضرورة إجراء تحقيق شامل ودقيق لمعرفة أسباب الانفجار وتجنب وقوعه فى المستقبل. ووفقًا لوكالة أنباء تسنيم الإيرانية، أصدر بزشكيان، أمرًا بتقديم مُساعدات فورية للمُصابين مع إعطاء الأولوية لإرسال الإمدادات الطبية، وتزامنت دعوات الرئيس مع إعلان رئيس البرلمان الإيرانى محمد باقر قاليباف، تشكيل لجنة برلمانية خاصة تجرى تحقيقا حول أبعاد حادث ميناء الشهيد رجائي. وفي حين أن التحقيقات لا تزال سارية لمعرفة أسباب الحادث وملابساته، إلا أنه من الناحية السياسية، لا يمكن تجاهل التوقيت، وبكلمات أخرى، فإذا ما ثبت اقتحام السياسة لانفجار ميناء بندر عباس، فثمة مُستفيدون أهمهم إسرائيل، فلماذا اسرائيل أكبر المستفيدين.. أولًا وبافتراض أن إسرائيل لم تتآمر أو تخطط لتنفيذ مثل هذا الانفجار، فإن الحادث فى ذاته أمر جيد بالنسبة لها، إذ تحدثت بعض التقارير عن أن الانفجار طال مكونات لازمة فى صناعة الصواريخ. كما أن حوادث كهذه غالبا ما يتبعها موجة استياء شعبية، تطال وتلحق بالنظام الحاكم، وتعزز من المشاعر السلبية عموما لدى الشعب، وثانيًا، بافتراض أن إسرائيل ساهمت فى التخطيط لهذه الحادثة، فثمة عدة أهداف ورسائل من ورائها. ◄ تحرش سياسي وعسكري ربما أول هذه الرسائل أن إيران لا يجب أن تعول كثيرا على أى اتفاق مع الولاياتالمتحدة. فأى اتفاق مع أمريكا لن يحمى طهران من إسرائيل إذ لن تقدم واشنطنلطهران، نيابة عن إسرائيل، أى ضمانات أو «تعهد بعدم الاقتراب»، كما أن أى اتفاق مع أمريكا لن يردع إسرائيل عن التصرف كما يحلو لها، ولن يمنعها عن أن تستبيح الأراضى الإيرانية لتنفيذ هجمات أو عمليات محدودة أو حتى اغتيالات كما فعلت من قبل. وثانيا أن إسرائيل لن تتوانى عن «التحرش السياسى والعسكري» بالأراضى الإيرانية طالما ظلت طهران مالكة لبرنامج نووي، حتى وإن تم الاتفاق على تجميد النشاط به، وثالثًا، رُبما تريد إسرائيل من ذلك استعراض قدراتها على الاختراق الأمنى للجمهورية الإسلامية والذى ظهر فى أوضح صوره مع اغتبال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية فى 31 يوليو من العام الماضي. وأثبت أكثر من حادث فى مقدمتهم اغتيالات علماء إيرانيين بالفعل قدرات إسرائيل فى عمل اختراقات أمنية فى ايران، وتعتمد إسرائيل بشكل أساسى على تجنيد عملاء وتضع نصب أعينها الحرس الثوري، ووفقا للتقارير، يحتجز العشرات من قياداتٍ رفيعة المستوى فى الحرس الثوري، فيما تمتنع الحكومة الإيرانية عن نشْر أسمائهم أو رُتَبِهم؛ لتفادى الأضرار بسُمْعة الحرس الثوري، كما أشارت تقارير إلى طُرُقِ تجنيدِ الموساد لمجموعةٍ من السفراء الإيرانيين وقادة الحرس الثوري، والتى من بينها؛ جمْع أدلة غير أخلاقية بحق هؤلاء القادة، ومنها؛ ابتزازهم بمعلوماتٍ حوْل علاقاتهم مع بعض النساء؛ لإجبارهم للتعاوُن والتخابُر لصالح إسرائيل. وفى نهاية عام 2013، أكَّدت تقارير، أن قادةً فى الحرس الثورى الإيرانى وضباط مخابرات، قد تمَّ اعتقالهم بتهمة التجسُّس لصالح الموساد، وكان أحد المتهمين الضابط المسئول عن مكافحة التجسُّس ضد إسرائيل فى وزارة الأمن الإيرانية، وفى يونيو عام 2021، أقرَّ الرئيس السابق، أحمدى نجاد، بأن الموساد قد اخترق وزارة استخباراته، مُصرِّحًا ب«هل من الطبيعى أن يكون أكبرُ ضابطٍ مسئولٍ عن السيطرة على الجواسيس، والمسئول عن مواجهة المؤامرات الإسرائيلية فى إيران هو نفسه عميل لإسرائيل؟». ◄ العلاقات مع واشنطن إذا ثبت تدخل إسرائيل فى الأحداث، فإن ما حدث يوجه لكمة فى وجه ترامب الذى يُسابق الزمن لعمل اتفاق نووى مع إيران يُعده ضمن «إنجازاته السياسية» فى الفترة الأولى من حكمه، وهو الذى من أجله بذل الغالى والنفيس، فقبل الانفجار بيوم واحد، أعلن ترامب استعداده للقاء المرشد الأعلى للثورة الإسلامية فى إيران خامنئى أو رئيس الجمهورية بزشكيان، وفى اليوم نفسه، رد ترامب على سؤال عما إذا كان يخشى من أن يجر رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو الولاياتالمتحدة لحرب مع إيران، وقال: «لا»، وحاول ترامب أن يتجنب الظهور فى مظهر «الضعيف» فهدد من ناحية أخرى ببحث خيار الحرب طواعية، لكن المنطقى هو أن خيار المفاوضات طرح وقبل من الأساس لصعوبة بل واستحالة خيار الحدب فى التعامل مع إيران، ووصفت إسرائيل، الحليف الوثيق للولايات المتحدة والعدو الرئيسى لإيران فى الشرق الأوسط، برنامج طهران لتخصيب اليورانيوم بأنه «تهديد وجودي» لها. ودعا نتنياهو إلى تفكيك القدرات النووية الإيرانية بالكامل، قائلاً إن الإجراءات الجزئية غير كافية لضمان أمن إسرائيل. ◄ اقرأ أيضًا | إسرائيل تتذوق الجحيم| حرائق «خارج السيطرة» وإجلاء أكثر من 10 آلاف ومما سبق يتضح مدى الخلاف بين نتنياهو وترامب حول السياسة الأفضل لإيران، لكن تحليلًا نشره الباحث المخضرم فى شئون الشرق الأوسط، ستيفن كوك، قال فيه إنه بالنسبة للمهتمين بالشأن الإيرانى فى واشنطن، والذين يستطيعون تجاهل الفوضى التى أحدثها ترامب، تبدو المدينة كما كانت قبل عقد من الزمن تقريبًا، حين كانت إدارة الرئيس باراك أوباما تتفاوض بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة «JCPOA» صحيح أن اللاعبين تغيروا، لكن الجدل الثنائى ذاته يهيمن على النقاش داخل مجتمع السياسة الخارجية: «هل الدبلوماسية أم العمل العسكرى هو الخيار الأفضل للتعامل مع البرنامج النووى الإيراني؟ ومن المفيد دراسة النتيجة المحتملة لهذين النهجين المعيبين؟». وقال كوك، إنه عندما يتعلق الأمر بالمفاوضات، يبدو من الواضح أن الإيرانيين لن يتخلّوا عن شيء ثمين للغاية - وهو برنامجهم النووى غير المقيّد - دون أن يحصلوا فى المقابل على ثمن من الولاياتالمتحدة. فمقابل فرض قيود على تطوير البرنامج النووى الإيراني، سيطالب مفاوضو المرشد الأعلى، آية الله على خامنئي، برفع العقوبات وضمانات بأن هذه القيود ستكون مؤقتة. وفى اتفاق عام 2015 النووى «JCPOA»، كانت القيود المفروضة على طهران - بما فى ذلك عدد أجهزة الطرد المركزي، وإنتاج المياه الثقيلة، وتخصيب اليورانيوم - محددة بفترات تنتهى بعد 10 أو 15 عامًا، وقد كان هذا مقبولًا لدى القيادة الإيرانية لأنها تنظر إلى الأمور على المدى البعيد أكثر من نظرائها الأمريكيين، وكانت قادرة على الحفاظ على جوهر برنامجها النووي، وغالبًا ما يغيب هذا المنظور عن مفاوضى السياسات الأمريكيين عمومًا، وربما ينطبق هذا أيضًا على الاتفاق النووى المُحتمل الذى قد تبرمه إدارة ترامب، والذى سيتضمن على الأرجح قيودًا مؤقتة، وبدون مثل هذه البنود، من غير المرجح أن يوافق خامنئى على أى صفقة. ◄ فوائد للإيرانيين مثل هذا الاتفاق سيكون له فوائد كبيرة بالنسبة للإيرانيين، الذين سيتمكنون من بيع كميات ضخمة من النفط، وعقد صفقات تجارية مع شركات أوروبية وأمريكية، وفى الوقت نفسه، سيستمر البحث النووى - وإن كان بشكل مؤقت ومقيد - كما أن الأموال الإضافية ستساعد حراس النظام على تعزيز قبضتهم على السلطة، أما بالنسبة للعمليات العسكرية - وخاصة إذا نفذتها الولاياتالمتحدة - فمن المُرجّح أن تُلحق أضرارًا جسيمة بالبرنامج النووى الإيرانى وتؤخره، وهو أمر جيد بحد ذاته، ولكن بالنظر إلى محدودية المعلومات الاستخباراتية لدى واشنطن عن مدى تقدم البرنامج النووى الإيراني، سيكون من الصعب تحديد حجم الضرر الحقيقى الذى يمكن أن تلحقه الغارات، وما إذا كانت المنشآت الأساسية ستبقى قائمة، وبالنظر إلى أن أجزاءً رئيسية من البرنامج النووى الإيرانى ربما تكون مدفونة ومخفية، فإن الضربة الأمريكية قد تدفع النظام إلى تسريع وتيرة التسلح واستخدام ما تبقى من البرنامج لأغراض عسكرية. هناك خطر آخر لاستخدام القوة العسكرية، فرغم صعوبة تحديد مدى شعبية النظام بدقة داخل إيران، إلا أن عددًا غير قليل من الناس خرجوا مرارًا للاحتجاج ضده، ولذلك، فإن الضربات الجوية الأمريكية قد تضع المعارضة الإيرانية فى موقف سياسى حرج، حيث سيصبح من الصعب عليها الاستمرار فى معارضة النظام، بينما يقوم خامنئى بتعبئة قاعدته الشعبية ردًا على الهجوم، وبطريقة غير مقصودة، قد تؤدى سياسة منع الانتشار باستخدام القوة إلى إعادة إشعال المشاعر المعادية لأمريكا التى ساهمت فى إشعال الثورة قبل ما يقرب من خمسة عقود، مما قد يخلق «تأثير الالتفاف حول العلم» الذى يُضعف المعارضة، فلماذا يرغب صانعو السياسة فى ذلك؟! ووفقًا لتحليل كوك، فإذا كان البرنامج النووى الإيرانى يشكّل تهديدًا بسبب طبيعة النظام الإيرانى نفسه، فمن المنطقى أن سقوط هذا النظام، وظهور نظام سياسى جديد أقل عدائية تجاه الغرب وجيرانه، سيجعل من البرنامج النووى الإيرانى تهديدًا أقل، ولهذا السبب، يرى كوك أنه يجب ألا يكون هدف السياسة الأمريكية هو التفاوض على نسخة جديدة من الاتفاق النووى أو تنفيذ ضربات عسكرية، بل السعى لإنهاء هذا النظام، دون الحاجة إلى غزو عسكرى لطهران. ◄ توقيت سيئ ووفقًا لتحليل كوك، قد يكون هذا أسوأ توقيت ممكن للمفاوضات أو الضربات الجوية، إذ يبدو النظام فى أضعف حالاته، الاقتصاد الإيرانى يعانى بشدة تحت وطأة العقوبات، كما أن خامنئى طاعن فى السن ومريض، وغالبية الشعب تشعر بالسخط وتبحث عن التغيير، ومع ذلك، لاشك أن هناك جوانب غير مؤكدة فى هذا النهج، فقد يسقط النظام ويحل محله نظام أسوأ، كما أن توقيت انهياره غير معروف «هل سيحدث خلال أسابيع؟ أشهر؟ سنوات؟ أو ربما لا يحدث أبدًا؟»، وخلال هذه الفترة، قد يتمكن الإيرانيون من تطوير سلاح نووى، ومع ذلك، فإن النظام الحاكم يجد الآن دعمًا سياسيًا غربيًا عبر المفاوضات، ويبدو أن واشنطن - المحبوسة فى صراع داخلى بين خيارين - عاجزة عن رؤية أن كلا المسارين لا يؤديان إلى حل.