أحسب أن الإنسانية الحقة تشعر بالفقد بعد رحيل البابا فرنسيس. اجتمعت فى هذا الحبر الجليل سجايا وسمات قل أن يحوزها إنسان بمفرده، ولا أظن أن الأمر يتعلق بمنصب أو مقعد، وإنما لتخلقه بأخلاق المسيح عليه السلام، فكان قدوته ونبراسه. الرحمة، التسامح، التواضع، البشاشة، المودة، البساطة،...،...، وسواها من قيم راقية تحلى بها البابا الراحل، يقينا سبقت تقلده موقعه الرفيع، راعيا لنحو 1٫4 مليار كاثوليكى، لكنه كان يعد الإنسانية جمعاء أسرته الكبيرة. على مدى 12 عاما فى الفاتيكان، تابعته، فكانت مواقفه وتوجهاته تنم عن انحياز للحق، واصطفاف إلى جانب الضعفاء، والفقراء والكادحين، والمظلومين، مدافعا عن الإنسان من حيث كونه إنسانا، رافضا لكل صور العدوان والحرب والدمار والبغى، داعيا للسلام والأمل، عبر وعى عميق بقضايا العصر. كان « أيضا » داعيا للحوار، ساعيا للتعايش، فلم يكتف بتعزيز الحوار بين الكنائس، لكنه وسع الدائرة لتشمل العالم الإسلامى ومؤسساته، وفى القلب منها الأزهر الشريف، وبلغ الأمر ذروته بتوقيعه مع الإمام الأكبر وثيقة الأخوة الإنسانية، وفى ذلك انصياع لأمر السيد المسيح: «أنتم جميعا إخوة»، تماما كما كان الشأن حين انحاز للمستضعفين مستلهما كلمات عيسى عليه السلام: «روح الرب مستنى لأبشر المساكين، لأنادى للمأسورين بالانطلاق، وأرسل المنسحقين فى الحرية». غير أن ثمة مشهدا تكرر لا يغادر ذاكرتى، حين قام البابا فرنسيس بغسل أقدام الفقراء والبسطاء، أكثر من مرة، وكأنه يحيى وصية المسيح لتلاميذه الأوائل: «من أراد أن يصير فيكم عظيما يكون لكم خادما». وكان يتبع قوله بالفعل، فقبل أن يرفع، دعا تلاميذه بعد العشاء، ليغسل أقدامهم واحدا، واحدا، ثم يجففها بالمنشفة، لكنهم يحاولون منعه، فيواصل ما بدأه، حتى ينجزه تماما يخاطبهم: أنتم تدعوننى معلما وسيدا، وحسنا تقولون لأنى كذلك، فإن كنت وأنا السيد المعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. وبعد أكثر من 20 قرنا، يأتى البابا فرنسيس ليحيى هذه السنة تخلقا بنهج المسيح، تواضعا ومحبة للبسطاء. حتى اللحظة الأخيرة جاءت وصيته بجنازة بسيطة، ومقبرة بسيطة، ونعش بسيط، لتؤكد إلى أى مدى كان السيد المسيح قدوته، فطبت حيا، وطبت ميتا أيها الحبر الجليل.