هنا «عزبة البرج»، حيث احترف الإنسان المصري منذ قديم الزمان مهنة صناعة المراكب والسفن وعرف أسرارها، ليصبح إنتاجه منها محور اهتمام العالم ومطلب كل من يريد ركوب البحر في «فلك آمن». مدينة كاملة يعمل أغلب أبنائها في «صناعة السفن»، ولحرفيتهم ومهارتهم، امتلكوا أسطولا ضخما، وأيضا أكبر ترسانة بحرية في مصر ودول حوض البحر المتوسط.. ومن لا يعمل منهم فى صناعة السفن والقوارب بمختلف أنواعها، فإنه يركب تلك السفن ليصطاد خيرات البحر ويطعم الآخرين. ◄ إنتاجها وصل لأوروبا وأمريكا ◄ تضم أشهر حلقة سمك يتوافد عليها تجار البلد ◄ صناعة المركب تستغرق 4 شهور واليخت نصف عام «عزبة البرج» فى محافظة دمياط يرجع سبب تسميتها إلى البرج الذى كان يحرس شاطئها من الغزو الخارجي، وقد انطمست معالم هذا البرج الآن تحت مياه النيل ولكن لا يزال أثره ظاهرًا في النيل كجزيرة ضحلة المياه. برع أبناؤها في صناعة السفن وصدّروا إنتاجهم إلى كثير من الدول في أوروبا وأمريكا، ومعظم دول الخليج نظرا لما تتميز به من جمال التصميم ومتانة التصنيع. وهنا يبلغ عدد العاملين فى هذه الصناعة أكثر من ألف عامل، فضلا عن آلاف العاملين فى صناعات مكملة لصناعة السفن، وتتراوح مساحة الورشة الواحدة «الصغيرة» و»المتوسطة» بين 1000 و4000 متر مربع، فى حين تتراوح مساحات الورش «الكبيرة» بين 10 و30 ألف متر مربع، وتضم وحدها 65% من الأسطول البحرى المصرى وعددا من ترسانات صناعة السفن والمراكب، حيث يبلغ عدد المراكب ما يزيد على ألف مركب. ◄ ليست مجرد حرفة صناعة السفن في «عزبة البرج» ليست مجرد حرفة يمارسها البعض باعتبارها وظيفة أو مصدرا للدخل وإنما هى بمثابة نوع من الفنون وموهبة منحها الله للبعض.. هذا الرأى ستسمعه من أغلب «أسطوات» هذه الصنعة ومن داخل كل ورش «العزبة» التي سمح أصحابها لنا بفتح صندوق أسرار الصنعة والتعرف على مراحل تصنيع السفن وكيف أثرت تلك الصناعة فى أهالى «العزبة». يقول الأسطى سعيد غنام، صاحب إحدى الورش: هناك نوعان من صناعة السفن، السفن الخشبية والسفن المصنعة من الحديد، وحاليًا تعتبر صناعة السفن الحديدية هى أكثر الأنواع طلبا، لمتانتها وجودة صناعتها. وعادة ما نبدأ فى تصنيع سفينة صيد طولها 25 مترا، بالعمل فى مقدمة السفينة التى تستغرق يومين على الأكثر، ثم بعدها يتم التوجه لعمل المنتصف ثم المؤخرة، وتعتبر «مرحلة البنيان» أهم مراحل صناعة السفن، حيث نضع الأساس اللازم لاستكمال العمل» وغير مسموح بأى خطأ فى مراحل البناء، فهناك خطة العمل التى نسير عليها حتى يتم الانتهاء من صناعة السفينة. ◄ مراحل التصنيع وخطوات تصنيع المراكب الخشبية تبدأ بإنشاء الضلوع من أخشاب شجر «التوت، والسنط، والكافور» ثم يتم تجليد هذه الضلوع بأخشاب سويد درجة أولى، أما تصنيع مراكب الحديد فيتم إنشاء زوايا حديد وتجليدها بصاج يكون سمكه حسب طول المركب ثم يتم تقسيم أسطح المراكب سواء الخشب أو الحديد إلى الدور الأول الذى يتكون من «عنبر أمان، وثلاجة حفظ الأسماك ويكون تجهيزها حسب الإمكانيات وأحدث تجهيز له من الفايبر، وحجرة المحرك وتتضمن المحرك الرئيسى عدد 2 تنك سولار ومشتملات المحرك وعنبر خلفى للشباك. أما الدور الثانى فيتكون من «حجرة قيادة والبرتش وحجرة للبحارة تضم من 6 إلى 8 سرائر، ودورة مياه، ومطبخ، وصالة صيد»، وتستغرق مدة صناعة المركب 4 أشهر. وهناك مهن مختلفة تدخل فى صناعة السفن، مثل فنيى اللحام، وخراطة الحديد، وعمال الدهانات، فصناعة السفن مهنة تجمع بين العديد من الحرف، لذلك تجدها أبرز المهن التى عرفها أبناء «عزبة البرج». ◄ مدينة بلا بطالة مدينة كاملة يدور اقتصادها حول مهنة واحدة، ألا وهى «صناعة السفن»، ويمتلك أهاليها بدون مبالغة حوالى ثلث أسطول الصيد العالمى وجميعها مقومات تجعل «عزبة البرج» مدينة بلا بطالة. وحاليا فإن أغلب ما يتم تصنيعه هو اليخوت المطلوبة من صناع اليخوت وتصدر للخارج، وفى الوقت نفسه هى الأكثر طلبا والأسهل فى الصناعة من السفن كبيرة الحجم وقد يستغرق صناعة اليخت من شهر إلى 6 أشهر حسب اليخت وحجمه وإمكانياته. ◄ الصيانة وبالتوازى مع عمليات البناء هناك عمليات الصيانة لمراكب الصيد الحالية، حيث يقوم يوميا مجموعة من العمال بسحب مراكب الصيد إلى الشاطئ تمهيدا لإجراء الصيانة اللازمة لها، وهم عمال «الأزء»، وأطلق عليهم هذا الاسم بسبب الخطورة الشديدة التى يتعرضون لها فى كل عملية، ما جعل الأهالى هناك يطلقون عليهم هذا الاسم الغريب. وقبل البدء في سحب السفينة عليهم حساب اتجاه الرياح وسرعتها أولا، فيما يشبه العملية الهندسية وهو أمر مرهق جدًا وشاق، والخطوة الثانية هى تجهيز الأرض لاستقبال السفينة، ويقومون بزرع قضبان حديدية من أجل سحب السفينة عليها لضمان سهولة الحركة، بعد ذلك يتم ربط أسلاك من «الواير» الحاد بجنباتها ثم تبدأ عملية سحب السفينة للشاطئ. ◄ عقبات ورغم المكانة الكبيرة التى تشتهر بها «عزبة البرج» في صناعة السفن، فإنها تواجه العديد من العقبات حاليا، بسبب ارتفاع أسعار الخامات، فضلا عن نقص العمالة الماهرة، بخلاف شكوى أصحاب الورش من ارتفاع القيمة الإيجارية للمتر من جنيهين لأكثر من 20 جنيها. يقول أبوالمعاطي محمد أبوعطايا، أحد شيوخ مهنة صناعة السفن فى عزبة البرج: هناك العديد من الصعوبات التى تقف فى طريقنا، ومنها غلاء أسعار الخامات، إضافة إلى عدم وجود فئة جديدة من العمال تتعلم أصول الصنعة. فيما يقول أحمد السمبسكاني - وهو أيضا أحد شيوخ صناعة السفن: توارثت الصنعة أبًا عن جد قبل نحو 70 سنة، منذ كنت طفلا لا يتخطى عمره 5 أعوام، كنت أنزل بصحبة جدى ووالدى إلى الورشة.. وهناك عائلات أصبحت هى «عصب الصنعة» مثل «السمبسكانى» و«طرابية» و«أبوالعزم» و«أبوعطايا» و«حبيب»، ومن هذه العائلات جاء شيوخ المهنة و«الأسطوات» الذين وصل بهم الأمر إلى صناعة السفن واليخوت والتصدير للعديد من الدول كاليونان وقبرص وسوريا وليبيا، إضافة لدول الخليج. لكن الصناعة شهدت تراجعا خلال السنوات الأخيرة، ما تسبب فى إغلاق كثير من الورش، بسبب عدم قدرة الصنّاع على تسويق منتجاتهم من السفن، بالإضافة إلى الركود فى حركة البيع والشراء، وأصبح عمل بعض الورش حاليا هو الصيانة لبعض السفن التى صنعت فيما مضى، مع عدم وجود عمالة ماهرة يمكنها الحفاظ على الصناعة. ويقول مصطفى طرابية أحد أصحاب الورش: هذه المشاكل وغيرها دفعتنى إلى إغلاق ورشتي، التى أسسها والدى الذى كان يصنع المراكب من الخشب، قبل أن ندخل عليها بعض التطوير، وكذلك كنا نصنع مختلف المراكب «السياحية والشحن والتفريغ والصيد» ونجحنا فى تصديرها إلى كثير من الدول، لكن غلاء الخامات وارتفاع أجور العمال، وكذلك عقبات الإجراءات القانونية المتبعة فى ترخيص وإجراءات صناعة السفن، وهى الإجراءات المعمول بها منذ أكثر من 50 سنة دون تغيير ساهمت فى زيادة الركود.