يبقى الفنان عمر الشريف أحد أيقونات التمثيل في تاريخنا المصري والعربي، بل والعالمي أيضا، والذي اخترق شاشته عبر أعمال سينمائية خالدة كشفت مقوماته كممثل له ثقله ومنهجه، وفي مقدمة هذه الأعمال اتوقف عند فيلمه الأيقوني "دكتور زيفاجو" الذي يمر على تقديمه 60 عاما، والواقع أني في هذه المرحلة من حياتي، شاهدت آلاف الأفلام ولا يزال بإمكاني القول إن هذا الفيلم لا يزال واحدًا من أفضل 20 فيلما شاهدتها، خاصةً بالنظر إلى أنه تم إنتاجه في عامي 1964/1965 بدون تكنولوجيا اليوم، لكنه يحمل عبق الإبداع السينمائي الحقيقي عند النظر في التصوير السينمائي والتمثيل وقصة الفيلم والديناميكيات العامة للقصة.. ربما لم يشاهده نسبة كبيرة من جمهور المشاهدين اليوم، حيث تغيرت الأوقات، ويبدو أن الخيال العلمي أصبح أكثر شعبية الآن، لكن يبقى للفيلم ونجمه مكانة خاصة، فلا يزال عمر الشريف مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالدكتور يوري زيفاجو، الطبيب والشاعر الروسي الذي شارك في الثورة البلشفية، ليُؤثر عليه التاريخ السياسي رغمًا عنه، وجولي كريستي، بجمالها المعهود، في دور لارا أنتيبوفا، حبيبة زيفاجو الحقيقية. إنها واحدة من أعظم قصص الحب في تاريخ صناعة الأفلام، إذا كنت قد عشقت يومًا، وأحببت، ثم فقدت، فمن المؤكد أنها ستجعلك تبكي لو لم تشاهد الفيلم من قبل، ومن المحتمل أنك تعرف القصة عن تحول حياة "الدكتور زيفاجو" المريحة في موسكو إلى حالة من الفوضى بسبب الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية، وخلال هذه الاضطرابات العنيفة، ظل مفتونًا "بلارا"، المرأة البطولية المظلومة التي يحبها لكنه بالكاد يعرفها، وكل شيء يتأمر ضدهما، لكن القدر يجمعهما.. فهل سينجو حبهما من الثورة؟، أم سيدمرها التاريخ؟.. لقد حقق فيلم "دكتور زيفاجو" نقلة نوعية بتصويره الظروف التي أدت إلى الثورة، من حكم القيصر الاستبدادي، الفقر المدقع، والتجنيد الإجباري (خاصةً وأن الجنرالات لم يكترثوا بالجنود تحت قيادتهم)، ثم، بالطبع، ظن الشعب الروسي أنه سيُنشئ مجتمعًا عماليًا، لكن الأمور لم تسر على ما يرام، حافظت أغنية "لحن لارا" الرئيسية على استمرارية الفيلم في كل مراحله، ربما لا يكون هذا الفيلم أعظم دراما تاريخية على الإطلاق، لكنه فيلم أنصح الجميع بمشاهدته. شاعر محبوب، لكنه مُثير للجدل سياسيًا، لا تُكشف كلمة واحدة من شعره للجمهور (باستثناء عنوان إحدى قصائده، "لارا"، تيمنًا بالمرأة التي يُحبها). على أي حال، فإن الحقائق العاطفية الكامنة وراء التمثيلات غير الكافية أو الخاطئة أحيانًا تُؤثر بقوة، ويُعطي المنظور الواسع إحساسًا باضطرابات العصر، وتُبقينا اختيارات الممثلين الحية والبارزة مفتونين بالشخصيات ومركزين عليها بقسوة الحرب القاسية والدرك الأسفل الذي يمكن أن ينحدر إليه من وقعوا في قبضتها، وكيف أننا، رغم مأسي تاريخنا، نواصل حياتنا مهما كلف الأمر، كان لديفيد لين موهبة رائعة في إضفاء صور جريئة في اللحظة المناسبة تمامًا، وكان لديه الموهبة نفسها في مؤثرات صوتية مُتقنة التوقيت، غالبًا ما تظهر في مرحلة المونتاج، في نهاية فيلم "زيفاغو"، يشعر المرء بحزن هائل وخسارة، لكن بأمل في المستقبل، بالنظر إلى المناخ السياسي الدولي وقت إصداره، يُعالج الفيلم الثورة الروسية بموضوعية كافية لتسليط الضوء على جانبي الانقسام السياسي، بمعنى آخر، لا يُروج لأيٍّ من الجانبين. كان هذا أول فيلم هوليوودي ضخم يتناول الثورة الروسية، وظل يُعرض في دور السينما حول العالم بعد عامين وثلاثة أعوام من إصداره الأول، على الرغم من رفض معظم نقاد السينما الرئيسيين آنذاك. وقد اكتسب الفيلم شعبيته من خلال التناقل الشفهي، أي من حب الجمهور الصادق للقصة وتقديمه الفني المذهل والمتقن، ومن المثير للاهتمام أن فيلم "زيفاجو" حقق نجاحًا باهرًا في شباك التذاكر، حيث جاء في المرتبة الثانية بعد فيلم "صوت الموسيقى" الذي عُرض في العام نفسه، ويروي كلا الفيلمين قصة أفراد واجهوا اضطرابات سياسية حديثة في العالم القديم (الشيوعية/الفاشية)، علاوة على ذلك، اكتسب ألبوم الموسيقى التصويرية لكل فيلم طابعًا خاصًا، حيث بيعت منه ملايين النسخ. لا عجب أن يُطلق على أسمى إنجاز إخراجي في الأكاديمية البريطانية للسينما والتلفزيون اسم ديفيد لين.. فهو فنانٌ أتقن الجمع بين الأداء الرائع، والأجواء الآسرة، والموسيقى التصويرية الخلابة، ليُبدع أعمالاً فنية ستبقى ركائزَ للأجيال المقبلة من صانعي الأفلام. قدّم عمر الشريف أحد أفضل عروضه في مسيرته الفنية، ولم تُقدّم جولي كريستي أداءً مُبهراً كهذا من قبل، ولا رود ستايغر في دور كوماروفسكي، ولا توم كورتيناي في دور أنتيبوف، أداءً لا يُنسى، حتى موريس جار، الذي ألّف أحد أكثر المواضيع التي لا تُنسى في تاريخ السينما، ولا روبرت بولت، الذي أبدع في اقتباس رواية باسترناك الصعبة، ولا حتى تصوير فريدي يونج السينمائي، لا يُمكنهم أن يفوقوا عبقرية ديفيد لين، نكاد نشعر بتعقيد الكون ينهار علينا بقوة جنونية، فنصبح جزءًا منه على الفور، ونقع في غرام كل جزيئاته. قد لا يبدو هذا منطقيًا لمن لم يشاهد الفيلم، وقد يُعطي فهمًا مُضلّلًا لما يُتوقع، "دكتور زيفاجو" أو عمر الشريف شاعرٌ يجد نفسه في مطلع القرن العشرين عالقًا في الثورة البلشفية التاريخية، طبيبٌ بارع، متزوج من صديقة طفولته تونيا (جيرالدين تشابلن في أداءٍ دافئ)، يكتشف أن هناك جمالًا يتجاوز الخداع، وحبًا يتجاوز الإلتزام، ببدء علاقة غرامية مع سيدةٍ غامضةٍ غالبًا ما تظهر في طريقه في أكثر اللحظات غموضًا، مصيرهما مُربكٌ كروسيا في الإضطرابات التي بدأها الحمر، فهو مُشكّلٌ من قِبل التاريخ دون موافقتهما، لا حلَّ لبلدٍ تخلّى عن شغفه سعيًا وراء تطوير ذاته، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للحبيبين الذين وجدا نفسيهما مُهمَلين في قلب الغابات الباردة في سيبيريا. هذا فيلم بطيء، ولأسباب وجيهة، يُتيح لنا الفيلم أن نتنفس أحداث القصة، وأن نمنحها زخمًا، وأن نحكم عليها من الداخل، كما لو أن الخيارات لم تكن من اختيار يوري أو لارا أو تونيا، بل من صنعنا، وهنا يكمن روعة إخراج لين، تتجاوز القصة الزمان والمكان، وتذوب في تفاهات حياتنا، وخلفها، لا يبقى لنا سوى الحب، نقيًا وحقيقيًا بشكل مذهل. كان النقاد متشككين، لكنه أصبح لاحقًا واحدًا من أكثر الأفلام الرومانسية شعبية، انبهر الجمهور حول العالم بجولي كريستي وعمر الشريف، اللذين لعبا دور الحبيبين المنكوبين، حتى الفيلم كانت له بدايات رومانسية - كرواية اضطرت إلى تهريبها من روسيا على لفات ميكروفيلم. "دكتور زيفاجو" قصة خالدة، تتجاوز العصر الذي دارت فيه أحداثها وعصر إنتاجها، وُلد عمر الشريف وجولي كريستي ليؤديا دورا "زيفاجو" و"لارا"، مع أن أياً منهما لا يبدو روسياً بأي شكل من الأشكال. في حفل توزيع جوائز "الأوسكار" لعام 1966، رُشِّح الفيلم ل10 جوائز، فاز ب5 منها، وهي "أفضل سيناريو، موسيقى، أزياء، إخراج فني، وتصوير سينمائي". اقرأ أيضا: كنوز| «أمير الصحافة» يهاجم عمر الشريف.. و«حليم» يدافع عنه !