خلال إحدى جلسات العلاج بالفن، استخدم أحد الجنود السابقين الرسم للتعبير عن ذكريات وصدمات مؤلمة خلال الحرب، لم يكن بوسعه أن يحكيها بالكلمات، وساهم ذلك فى علاجه. وفي عيادة أخرى عبرت فتاة عن مشاعرها تجاه فقد أمها بعد معاناة مع المرض، برسم لحظاتها الجميلة معها، وساعدها ذلك على الشفاء والتصالح مع الفقد. كذلك تحسنت حالة سيدة ثلاثينية تعاني الاكتئاب، بعد رسم رحلتها عبر نفق مظلم، وصلت فى نهايته إلى منظر خلاب وشمس مشرقة. كما أفاد العلاج بالفن رجلا كان يعاني من السمنة المفرطة، واستطاع تغيير نمط حياته، وتحسين صورته الذاتية. وكلها قصص لحالات يجرى عرضها ضمن الدعاية عن برامج علاجية، تستخدم الفنون في العلاج النفسي، وتثير الأسئلة حول مدى مصداقيتها. ◄ يشمل الرسم والموسيقى والدراما والتعبير الحركي ◄ نال الاعتراف في الأربعينيات وطُبق مع جنود الحرب العالمية ■ ورشة علاج بالدراما تماشيا مع طبيعة العصر، أصبح استخدام تقنيات وبرامج العلاج بالفن متاحا عبر الإنترنت، حتى أنه توجد بعض التطبيقات الإلكترونية له، تتضمن أنشطة وتمارين موجهة، صُممت للتعامل مع العقل الباطن من خلال الفن، وتتيح الفرصة للتعبير غير اللفظي، لاكتشاف حقيقة المعاناة النفسية، والتشافى منها. ■ العلاج بالرسم يلقي إقبالا ملحوظا في السنوات الاخيرة ◄ اقرأ أيضًا | كيف قاد التأخر في الكشف المبكر إلى الإصابة بالسرطان ◄ نظرة تاريخية البرديات الطبية هو اسم يطلقه علماء الآثار على 12 بردية مصرية قديمة، تتضمن إلى جانب الممارسات المتعارف عليها، طقوسا، يدخل الفن ضمنها، وخصوصا الموسيقى. ووفقا لعالم الآثار «فرانسوا دوماس» فقد كانت إحدى المصحات التى تستخدم هذا النوع من العلاجات ملحقة بمعبد دندرة، وكانت تضم مجموعة من الزنازين الصغيرة المظلمة لإعداد المرضى لما يعرف بالحلم العلاجى، الذى كان يتم بإدخال الشخص في شبه غيبوبة بواسطة مصابيح وحرق أخشاب معطرة وأغانٍ مقدسة لتأهيل المريض لتلقى الشفاء. وتشير الأدلة إلى وجود مركز مشابه كان ملحقا بمعبد الدير البحري، وفقا لمقال «روزالى دافيد» فى مجلة «The lancet» الطبية عام 2008. وذكر عالم الآثار المصرى الراحل عبد الحكيم عويان أن بعض الأهرامات استخدمت تجاويفها فى العلاج بالصوت من خلال تضخيم نغمات موسيقية، تحاكى رنين تجاويف الإنسان. كما أشارت عالمة الموسيقى «لوريل إليزابيث كيز» فى كتابها «التنغيم: القوة الإبداعية للصوت» إلى استخدام المصريين القدماء العلاجات الطقوسية من خلال بعض النصوص التي كانت حروفها المتحركة تنغّم بطرق معينة، لتقوم بدور علاجي. وهو ما يفسر بناء الهياكل الرنينية التي تضخم الصوت وتعزز تأثيره. والأساليب نفسها استخدمت في وقت لاحق فى اليونان. كما أدرك فلاسفتهم الروابط بين الشعور بالجمال والتشافى. وعرفوا دور المسرح كوسيلة لعلاج المشاعر والتوترات الداخلية من خلال التطهير. كما اعتقدوا أن الموسيقى تساعد على تهدئة الروح وتحقيق التوازن النفسي. وحديثا يرجع البعض جذور العلاج بالفن إلى ما كان يعرف بالعلاج الأخلاقى للمرضى العقليين فى القرن 18 فى أوروبا. لكن المصطلح لم يظهر إلا بداية الأربعينيات من القرن العشرين على يد الفنان والمعالج «أدريان هيل» الذى اكتشف الفوائد العلاجية للرسم والتلوين خلال خضوعه للعلاج من السل. ووصف الأمر بأنه إطلاق للطاقة الإبداعية للمريض، ما يساعده على بناء دافع قوى ضد المرض. وشجع زملاءه على التجربة، وأصدر نتائجها فى كتابه «الفن مقابل المرض» عام 1945. وانضم له الفنان «إدوارد أدمسون» وقاما بتعميم التجربة على عدد من المصحات النفسية والعقلية، حتى تم تأسيس الجمعية البريطانية للعلاج بالفن عام 64. وبالتوازى قامت كلٌ من «مارجريت تومبرج» و«إديث كرامر» فى أمريكا بتجارب مع الجنود العائدين من الحرب. وقد انتشرت جمعيات العلاج بالفن فى دول مختلفة ومنها مصر عام 2022. ■ إدوارد أدمسون أبو العلاج بالفن في بريطانيا ◄ علاج تكميلي حتى الآن ينظر للعلاج بالفن كعلاج تكميلي. وتشير الدراسات إلى نجاحه في الدعم النفسي لمرضى السرطان، وفى علاج ما بعد الصدمة للأطفال، والجنود. وفى كتاب «التشافى من الصدمات مع العلاج بالفن» تشرح الكاتبة وأخصائية العلاج بالفن «سوزان داي» أن ممارسات اليقظة الذهنية مع التعبير الفنى تغذى النمو الشخصى والرفاهية الروحية والعاطفية وتؤدى إلى شعور عميق بالانسجام، ويجعل الأشخاص قادرين على فهم دوافعهم القهرية وتحريرها، وعلى احتضان نقاط ضعفهم، والتخلي عن الأحكام على النفس والآخرين. ويعمل الأمر من خلال توفير مساحات آمنة وداعمة للباحثين عن التشافي للتعبير عن أنفسهم إبداعيا، ما يساعد على فهم تجاربهم المؤلمة. وتقوم العملية الإبداعية هنا بدور البوابة للعقل الباطن، حيث يمكن للشخص التحاور مع مخرجات لاوعيه، وبالتالي التطهير، ثم إعادة سرد قصته بشكل صحي. وتساعد هذه الممارسات على إفراز «الإندروفين» المعزز لشعور الاسترخاء والتجدد. وتتميز الفنون بأنها وسيلة تعبير رمزية، وليست كلامية. وتشير الكاتبة إلى أن ما ينجح من تقنيات علاجية مع شخص قد لا ينجح مع آخر. كما تختلف أساليب العلاج بالفن، بين ما يعتمد على علم النفس التحليلي، وتفسير رسوم المريض، وبين التقنيات المعرفية والسلوكية والجشطالتية. وتتضمن استخدام وسائط متعددة، مثل الرسم، والنحت، والموسيقى، والدراما والرقص. ◄ تأمل في دراسة أجراها العالم أندريا كرتش وآخرون عام 2013 تبين أن ممارسة الرسم تخفف من مستويات القلق والاكتئاب. وأفاد المشاركون أن الممارسة تدخلهم فى حالة تأملية، تخفض توترهم. وتمارس المعالجة «بيتى إدوارد» تقنية «العناية بالرسم» التي تساعد على تطوير القدرة على رؤية الأشياء بشكل مختلف، من خلال الرسم بالذهن، ومراقبة الأشكال. أما المعالجة «مارجريت نيسبيت» فتمارس تقنية الرسم الحر، التى تترك الفرصة للمشاركين لرسم ما يخطر ببالهم بحرية، ما يساعدهم على التدفق، وتستخدم الرسوم لفهم مشاعرهم ومخاوفهم. ويعتمد المعالج «أندريا ويليامز» طريقة رسم المشاعر، والتعبير عنها بالألوان والأشكال، ما يساعد على فهم التجارب العاطفية. وتمارس «نانسى سميث» تقنية «الرسم السردى» كوسيلة للتعبير بطريقة غير لفظية، تفيد فى حالات الصدمات والعلاقات المعقدة. ويمارس الدكتور «بونى جيلارد» تقنية الرسوم التوضيحية ثنائية الأبعاد، من خلال رسم المرضى لشبكة العلاقات فى حياتهم، لمساعدتهم على فهم تفاعلاتهم الاجتماعية وعلاقاتهم العائلية. ولا يقتصر الأمر على الرسم، فهناك من يعتمدون على النحت، والتلوين، والكولاج، حيث تتيح عملية الخلق الفنى تدفق المشاعر واكتشاف الذات، وإطلاق الدوبامين الذى يقلل التوتر. ◄ موسيقى ودراما في دراسة للمؤسسة الأمريكية للعلاج بالفن عام 2010 أعدتها «سارة سلايتون» وآخرون، يخلص الباحثون إلى أن للموسيقى تأثيرات عميقة على البشر فى كل الثقافات، نظرا لتحفيزها إنتاج الدوبامين كناقل عصبي مرتبط بالمتعة، كما تقلل مستويات الكورتيزول، ما يؤهلها لعلاج الاحتياجات العاطفية والإدراكية. ويتضمن العلاج الاستماع وتأليف الأغنيات، والعزف على الآلات الموسيقية. كما أثبتت الدراسة فاعليتها فى علاج اضطراب ما بعد الصدمة. وأجرت «جولييت هيس» دراسة مماثلة على علاج الصدمات. وقام أستاذ علم النفس العصبى الإدراكى «ثيرومالاتشارى ميثيلى» بدمج العلاج بالموسيقى ضمن علاجات الألم وتعزيز الصحة العقلية، وفى علاج الأطفال مفرطى النشاط، وضمن طب الشيخوخة لتحسين الذاكرة. كما قامت المعالجة «كاثرين أنستازيو» بعلاجات بواسطة أنواع من الموسيقى المختارة بهدف تعزيز الوعى الذاتى وتقليل التوتر، وحققت نتائج فى تقليل القلق وتحسين المزاج. كما استخدم المعالج «روبرت فريتز» تقنية التفاعل مع الموسيقى بالعزف أو الغناء، بهدف تعزيز التعبير العاطفى، وبناء الثقة، وتحسين التواصل. وتستخدم المعالجة «مارى كيسلر» تقنية الموسيقى الموجهة، بمصاحبة السرد أو لدخول حالات ذهنية معينة، بهدف علاج الاكتئاب والقلق. أما المعالجة «جينفر أليسون» فتستخدم ما يعرف بالموسيقى العلاجية، بغرض التسلية والتفاعل الاجتماعى، داخل مؤسسات الدعم. ويستخدم المعالج «ويستون باندى» تقنية الإبداع الموسيقى والارتجال، حيث يسمح للمشاركين بإنشاء موسيقى جديدة، أو غناء مؤلفات تعكس مشاعرهم، وهى مناسبة أكثر لأصحاب الميول الإبداعية. ويدمج البعض العلاج بالموسيقى مع الحركة الراقصة، لتعزيز التعبير الجسدي عن المشاعر والتحرر العاطفي، ما يؤدى إلى تحسين احترام الذات والتواصل الاجتماعي، وهى التقنية التى يستخدمها «روث ليفى» و«ماريان تشيس» رائدة العلاج بالرقص، وهو ما أفاد فى مجال تحسين الصحة العقلية.