الفن التشكيلى مجموعة متنوعة من الإبداعات البصرية التى تعكس ثقافات وحضارات الشعوب، ولكل مبدع تجربة تحمل بصمته الخاصة التى تترجمها أعماله.. فنان له معرض دائم باسمه فى محافظة «بوتسدام» فى ألمانيا، مَثّل مصر فى العديد من المحافل الدولية، وأطلقوا عليه فنان القرنة نسبة إلى «قرية حسن فتحى» لإقامته 20 معرضًا عنها،.. هو الفنان محمد دسوقى الحاصل على ليسانس الآداب قسم فلسفة 1990، والماجستير فى الفنون التشكيلية الشعبية من أكاديمية الفنون عام 2008. يعتز دسوقى بهويته المصرية، حيث تأثر بالمناظر الريفية فى ريف وصعيد مصر وترجم هذا التأثر فى لوحات عديدة تعكس موهبته الفطرية، تأمل ورسم قبب ومآذن المساجد التاريخية بتكويناتها المعمارية وأنماطها الهندسية، تعمق فى رسم المنازل الريفية البسيطة وتغزل فى تكوين أبوابها ونوافذها الخشبية البديعة التى تعكس مهارة صانعيها، رسم الفلاحة المصرية بشخصيتها وملامحها الفرعونية، وتناول بالدراسة مظاهر العمل والحياة الريفية البسيطة الممزوجة بالإخلاص والكرامة، فضلًا عن تعرضه لموضوعات ترتبط بالرزق والحياة الشعبية.. كل هذه العناصر جمعها عبر رحلته ليبدع من خلال عدة أعمال تحاكى الطبيعة. قرية القرنة فى صعيد مصر التى شيدها المعمارى الراحل حسن فتحى شغلت تفكيره طويلًا، حيث عبر عن غضبه بما حدث من هدم بيوتها ومقابرها التاريخية فى عدة أعمال..، ولا شك أن تجارب دسوقى اكتسبت شرعيتها الكلاسيكية فى تجسيد الملامح والهوية المصرية فى سياق انطباعى وأكاديمى، فقد عمل على استدعاء حالات الاندهاش الأولى التى اختذلها فى طفولته بحواسها التلقائية ونشوتها البصرية.. وفى لوحته التى أطلق عليها «من وحى زاوية سلطان» تناول بالرسم الطبيعة الريفية فى عروس صعيد مصر «محافظة المنيا»، حيث نهر النيل الساحر والجبال بتكويناتها النحتية العميقة التى تعكس عظمة الخالق، والمقابر والبيوت الريفية البسيطة والرقعة الزراعية المحيطة بها التى تنبض بالحياة، والفلاحات تزين المكان بالحضور والحركة.. رسم دسوقى تلك اللوحة بألوان الأكريلك على كانفس فى مساحة 120*100سم، ويلاحظ أن اللون البرتقالى يسيطر على أجزاء كبيرة من اللوحة، وكأن الفنان يحاول أن يترجم انعكاس وسيطرة ضوء الشمس على المكان بشكل عام، ومن المعروف أنه يستخدم السكين فى الكثير من أعماله مع الاستعانة ببعض الأدوات كالفرشاة للتحديد ودراسة بعض التفاصيل فقط. المشهد يعكس الطبيعة الخلابة فى زاوية سلطان بشرق النيل فى محافظة المنيا، حيث اختار الفنان مشهدًا دراميًا لعدد من المقابر ذات القباب متنوعة الأحجام، والتى يعتبرها الأثريون حلقة من الحلقات المرتبطة بالعمارة الإسلامية..، وهذه المقابر تطل على نهر النيل مباشرة، وتعمد الفنان أن يكون هذا المشهد مكتملًا، حيث اختار إحدى المقابر واقترب منها ليعكس لنا طبيعتها المعمارية، حيث تم بناء أجزاء كثيرة منها بالطوب اللبن، وتظهر آثار السكين واضحة فى الرسم، حيث أضافت بعدًا جماليًا يوحى بالقدم، وكأنها شاهدة على أحداث تاريخية عدّة، وهناك على بعد خطوات تظهر بعض الفلاحات بالزى الريفى الأسود كنوع من الدلالة على عودتهم من زيارة أحد موتاهم، وعلى مرمى البصر رسم الفنان مجموعة من المقابر تحيط بها الخضرة من ناحية ومياه النيل من الناحية الأخرى ويتضح مزج اللون الأخضر بلون مياه النيل الزرقاء كأنهما فى حالة عناق، وعلى الشط الآخر البعيد تظهر أشجار النخيل المتنوعة فى مشهد بديع.. اللون والأسلوب واختيار الكادر عند دسوقى مجرد مجموعة من المفردات تعكس الأصالة والشرقية والحميمية للماضى وجمالياته، فهو يحمل ويعكس معانى كثيرة وتنغيمات أكثر.. تفاصيل ومفاهيم عميقة ذات إيقاعات بصرية وهمس حسى متناغم، كأنك أمام حلم أو عالم خيالى، فهو صاحب ملامس تميل إلى المدرسة الانطباعية، لا يهتم بالتفاصيل الدقيقة للمشهد الذى يرسمه، لكنه يشعر تمامًا كأنه المتلقى..، ويسعى إلى ترجمة شعوره وانطباعه العام مع الإيحاء بوجود بعض التفاصيل الدقيقة بلمسات وملامس يسبحان بك فى عالم من الدهشة والتأمل.. الظل والنور لهما أهمية خاصة عنده، فهو يهتم بترجمة الواقع المرئى للطبيعة المصرية وخاصة فى الضواحى الريفية الغنية، ويبرهن على ذلك فى هذه اللوحة، حيث ضوء الشمس الساطعة والظلال المشبعة بما حولها من ألوان زاهية تظهر انعكاساتها على المقابر والمياه والرقعة الخضراء، وكأنه يحاول أن يدمج بين الحياة والموت فى رسالة فلسفية بحكم دراسته، كما شبهها لنا الفيلسوف اليونانى «إبيقور» عندما قال: الموت حدث واقعى ماثل فى صميم الحياة لا يكاد ينفصل عن فعل الوجود».