ثمة خطر صامت يهدد وحدة حلف شمال الأطلسي «الناتو»، على خلفية إدانة محكمة فرنسية الاثنين الماضي، زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، مارين لوبان ومنعها من الترشح لمدة خمس سنوات. ووفق تحليل نشرته مجلة «Tomorrow's Affairs»، فإن التطورات الراهنة ليست مجرد صراع أيديولوجي داخلي في دول الغرب، بل هو محاولة مُمنهجة لإعادة رسم التوازنات السياسية والعسكرية في العالم، تقودها تيارات قومية و شعبوية مدعومة بقوى خارجية، تسعى إلى إضعاف الحلف الغربي وتقويض شرعيته من الداخل. اقرأ أيضًا| خلافات داخل الاتحاد الأوروبي تفشل أكبر دعم عسكري لكييف وترى المجلة ذاتها، أن الأزمات الداخلية التي تواجه الديمقراطيات الغربية، تُستغل بشكل مباشر من قبل اليمين المتطرف، الذي يُحاول كسر الإجماع التقليدي حول أهمية «الناتو»، في وقت بالغ الأهمية بالنسبة لأمن القارة الأوروبية. وتشير المجلة الأمريكية العريقة إلى أن اليمين المتطرف لا يشنّ حرباً مباشرة على الناتو، بل يعتمد أسلوباً أكثر دهاءً: التشكيك في جدوى التحالف، واتهام قيادته بالخضوع لنخب غير منتخبة، بالإضافة إلى الانحياز لأجندات بعيدة عن «مصالح الشعوب»، وهذه السردية تلقى رواجاً متزايداً في المجتمعات التي تُعاني من ضغوط اقتصادية، وتحولات اجتماعية، وشعور بالخذلان من المؤسسة التقليدية. أما الهجوم على المؤسسات القضائية، كما في قضية مارين لوبان، عدّته مجلة «Tomorrow's Affairs» الأمريكية/ ضمن هذه الاستراتيجية الأوسع، بل هو إحدى أدواتها، والحكم الفرنسي الأخير بإدانة لوبان فتح الباب لحملة عالمية من التشكيك في استقلالية القضاء الفرنسي، قادها رموز اليمين في أوروبا والولايات المتحدة، من فيكتور أوربان وخيرت فيلدرز إلى جي دي فانس وإيلون ماسك. وبحسب المجلة الأمريكية، فإن هذا التشكيك في مؤسسات القضاء لا يهدف فقط إلى الدفاع عن شخصية سياسية بعينها، بل يُستخدم كورقة لزعزعة الثقة في النظام الليبرالي الأوروبي، ما يُمهّد الطريق لطرح أسئلة أكثر جذرية: لماذا يواصل الغرب الاعتماد على تحالف مثل الناتو في ظل ما يراه البعض «فساداً مؤسسياً داخلياً»؟ تسييس العقوبات يهدد وحدة الغرب في وقت تواجه فيه أوروبا تهديدات روسية مُتصاعدة، تظهر مفارقة لافتة: الانقسام حول ما إذا كان الحكم القضائي ضد لوبان يمثل تطبيقاً للقانون أم استهدافاً سياسياً. هذا الجدل، حسب تحليل المجلة الأمريكية يضرب مصداقية المؤسسات من الداخل، وهو ما تسعى التيارات المتطرفة لتوظيفه لتبرير فك الارتباط مع الالتزامات الدولية، وعلى رأسها الدفاع، الجماعي في إطار الناتو، بحسب «Tomorrow's Affairs». وتواصل أنه في حال إلغاء الحكم ضد لوبان نتيجة ضغوط سياسية أو حسابات انتخابية، فإن ذلك سيُستخدم كدليل إضافي على «هيمنة النخب»، ما يغذي خطاب التيارات المعادية للاتحاد الأوروبي وللتحالفات الغربية. ووفق المجلة الأمريكية، فإن الطعن في قرارات القضاء، خاصة عندما تكون ضد شخصيات يمينية متطرفة، أصبح تكتيكاً مركزياً في خطاب الشعبوية الجديدة، لكن ما يلفت الانتباه هو أن هذا الخطاب لم يعد يقتصر على الداخل الوطني، بل يُستخدم على نطاق دولي للطعن في شرعية السياسات الأوروبية، بما فيها تلك المتعلقة بالأمن الجماعي. ومن هنا يتضح كيف أصبحت قضايا محلية، مثل محاكمة لوبان، مدخلاً إلى تشكيك أوسع في المنظومة الغربية، فحين يُصوَّر القضاء الفرنسي على أنه أداة سياسية، يسهل اتهام الناتو بأنه مظلة تُدار من قبل ذات «النخبة الفاسدة» التي تُقصي المعارضة الوطنية وتُفرض رؤاها بالقوة. في هذا السياق، لا يُفهم حظر لوبان باعتباره نهاية سياسية محتملة لمرشحة يمينية، بل يُقدم كجزء من معركة وجودية بين من يسعون للحفاظ على نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن يريدون « تفكيكه» وإعادة تشكيله بما يتماشى مع النزعة القومية الجديدة. اقرأ أيضًا| أصدقاء ترامب بأوروبا| هؤلاء السياسيون يقفون بجانبه في الساحة الدولية اليمين يستثمر في مظلومية «الاستهداف» وتُظهر مجلة «Tomorrow's Affairs» أن الشخصيات اليمينية المتطرفة، ومن يدعمها من نخبة المال والتكنولوجيا، باتت تستخدم مفهوم «الاستهداف القضائي» لتوسيع قاعدتها الشعبية، فكل إدانة تُترجم إلى شهادة نزاهة في أعين المؤيدين، ودليل على أن النظام يخاف من «الحقيقة القومية». لكن الأخطر من ذلك، هو الربط المتعمد بين تلك الاستهدافات وبين فشل مؤسسات الغرب في مواجهة تحدياته الأمنية، فحين يُصوّر القضاء على أنه أداة قمع، يُصبح سهلاً اتهام الناتو بأنه أداة قسرية أخرى تُفرض عبر واشنطن وبروكسل، وليس مظلة حماية ديمقراطية، وفق رؤية المجلة الأمريكية. وفي هذا السياق، يتساءل تقرير المجلة: هل تتحول قضايا محلية مثل حظر لوبان إلى رافعة لإعادة رسم سياسات الأمن القومي؟ وهل يمكن أن تستغلها التيارات اليمينية لتقويض التزامات فرنسا تجاه الناتو، بحجة أن الحلف لا يخدم سوى النخب؟ شخصيات خارجية تغذي التشكيك لم يعد تأثير هذه الموجة يقتصر على أوروبا، من وجهة نظر المجلة الأمريكية، بل امتد إلى شخصيات أمريكية ذات تأثير دولي، مثل إيلون ماسك والسيناتور جي دي فانس، اللذين قدّما دعما مباشرا للخطاب المشكك في القضاء الأوروبي. إذ ترى أن دخول هذه الأصوات في النقاش لا يأتي من فراغ، بل يعكس توجهًا أوسع نحو التقاء مصالح قومية يمينية في الغرب، تسعى لتفكيك الشبكات القديمة للتحالفات والمؤسسات الدولية. وكلما اتسعت هذه الجبهة، ازداد الضغط على الحلف الأطلسي الذي يقوم أساسًا على وحدة المواقف والثقة المتبادلة، إذ من الصعب إقناع الشعوب بجدوى الدفاع عن دول أخرى، إذا كانت ترى أن نظمها السياسية نفسها غير شرعية أو مضطربة. وبحسب تحليل المجلة ذاتها، فإن محاولات تقويض الثقة في القضاء الديمقراطي لا تُهدد المؤسسات الوطنية فحسب، بل تمثل تحدياً مباشراً لحلف شمال الأطلسي، فالناتو لا يقوم فقط على الردع العسكري، بل على شبكة من القيم المشتركة: سيادة القانون، واستقلال القضاء، وحكم المؤسسات لا الأشخاص. لكن عندما تُقدَّم الأحكام القضائية باعتبارها «مؤامرات سياسية»، فإن هذه القيم تصبح موضع شك، وإذا انكسر هذا الرابط المعنوي بين الديمقراطية والأمن الجماعي، فستفقد التحالفات الغربية تماسكها، فكيف يمكن لدولة أن تثق بأن دولة حليفة ستهبّ لنجدتها إذا كانت تشكك في استقلالية نظامها القضائي؟ وفق «Tomorrow's Affairs». اقرأ أيضًا| هل تملك فون دير لاين «عصا سحرية» لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي؟ ازدواجية الخطاب والخطر الصامت وتشير المجلة الأمريكية إلى أن هذا هو التهديد الحقيقي: إضعاف الناتو من الداخل، لا عبر دبابات روسية أو صواريخ صينية، بل عبر حملات داخلية تُفكك أسس الثقة بين شعوب الدول الأعضاء. وتسلّط المجلة الضوء على رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بوصفها نموذجًا معقدًا للزحف اليميني داخل الناتو، فمن جهة، تُعلن دعمها العلني لأوكرانيا، ومن جهة أخرى، تُشارك في خطاب التشكيك بالمؤسسات الأوروبية، وتروج لخطاب يُضعف ثقة الناخبين بالديمقراطية. ورغم أن ميلوني تحاول إظهار التزامها تجاه «الناتو»، فإن مجلة «Tomorrow's Affairs» تحذر من أن ازدواجية خطابها تخلق ارتباكًا استراتيجيًا. فحين تتحدث باسم وحدة الغرب في مواجهة روسيا، لكنها تشكك في مشروعية مؤسسات أوروبا، فإنها ترسل إشارات متناقضة للحلفاء والخصوم على حد سواء. ومع تزايد أوجه الشبه بين خطاب ميلوني وخطاب شخصيات مثل ترامب وفانس، فإن هناك خطرًا متزايدًا بأن تتحول دول حليفة إلى منصات تشكيك بدلاً من كونها حصونًا للدفاع المشترك. من مفارقات اللحظة السياسية التي رصدها تحليل المجلة الأمريكية أن حظر لوبان قد يُعزز اليمين المتطرف بدل إضعافه، إذ يُصور أنصارها قرار القضاء كدليل إضافي على أن النخبة السياسية تخشى من خطابها، ما يُكسبها شعبية أكبر. في هذا السياق، يُطرح تساؤل استراتيجي حساس: هل يؤدي حظر السياسيين اليمينيين المتطرفين إلى حماية الديمقراطية، أم أنه يغذي خطاب الضحية ويمنحهم شرعية جماهيرية؟ إذا لم يكن الناتو مستعداً لمعالجة هذا التحول بخطاب متماسك، فإن المشهد بحسب تحليل المجلة سيتغير سريعاً: من حلف موحد قائم على القيم، إلى تحالف شكلي هش، يعاني من تآكل داخلي يقوده من يفترض أنهم أعضاؤه. الناتو في مواجهة التفكيك من الداخل وتحذر مجلة «Tomorrow's Affairs» من أن التهديد الأكبر الذي يواجه الناتو لم يعد يأتي من خارج حدوده، بل من داخل دوله الأعضاء، فالتشكيك في المؤسسات، وتسييس القضاء، واختراق الإعلام، لم تعد فقط أدوات بيد الخصوم، بل أصبحت أسلحة بيد سياسيين منتخبين داخل التحالف ذاته. وتشير المجلة إلى أن هذا الوضع يُهدد بإضعاف بنية الناتو السياسية والأخلاقية، حتى لو ظلت ترسانته العسكرية متماسكة، فحلفٌ عسكري دون قيم ديمقراطية مشتركة سيتحول إلى هيكل أمني فارغ، لا يملك القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في أوقات الأزمات. وإذا استمرت تيارات اليمين المتطرف في النفاذ إلى الحكم، والتشكيك في جدوى التحالفات، فإن السؤال لن يكون: هل سيدافع الناتو عن دولة عضو؟ بل: هل سيظل هناك إيمان حقيقي لدى الشعوب بأن هذا الدفاع يستحق التضحية؟ حرب دون إطلاق رصاصة واحدة تضيف المجلة أن روسيا لا تحتاج إلى خوض حرب شاملة مع «الناتو»، فالمطلوب هو فقط أن تستمر في دعم الخطابات الشعبوية، وتمويل حملات التضليل، ورعاية حركات التشكيك في الديمقراطية الأوروبية، وكلما ضعفت ثقة الناس في مؤسساتهم، زادت فرص موسكو لإعادة رسم ميزان القوى في أوروبا. وإذا تم تفكيك وحدة الحلف من الداخل، فلن تحتاج روسيا لاجتياح عسكري لتحقيق أهدافها، بل يكفي أن ترى العواصم الأوروبية تتصارع سياسيًا، وشعوبها تشكك في قرارات حكوماتها، وتحالفها الدفاعي يتحول إلى منصة خلاف لا حماية. وحول « السيناريو الأخطر» يرى تحليل المجلة أنه لا يتمثل في اندلاع حرب تقليدية، بل في أن انهيار القيم التي يقوم عليها الناتو دون إطلاق رصاصة واحدة، فالحرب القادمة قد لا تكون على الحدود، بل داخل المجتمعات الغربية نفسها، بين من يسعى لترسيخ الديمقراطية، ومن يُفرغها من مضمونها بحجج الأمن أو السيادة أو محاربة النخب. في هذا السياق، يصبح حظر مارين لوبان ليس مجرد حدث قانوني، بل نقطة اختبار شاملة: هل يمكن لمجتمع ديمقراطي أن يفرض سيادة القانون دون أن يُتهم بالاستبداد؟ وهل يستطيع الناتو أن يبقى درعًا مشتركًا إذا بدأ الشك ينهش في مصداقية مؤسساته من الداخل؟ الرهان الأخير.. استعادة الثقة تختتم «Tomorrow's Affairs» تحليلها بالتأكيد على أن المواجهة الحقيقية لن تُحسم في ساحات المعارك أو اجتماعات القمم. بل في قدرة الديمقراطيات الغربية على استعادة الثقة الشعبية بمؤسساتها، وفرض القانون بشكل عادل، والدفاع عن القيم دون ازدواجية، فإما أن ينجح الناتو في إعادة تعريف نفسه كتحالف مبني على مبادئ راسخة في مواجهة الشعبوية والتضليل، أو ينزلق تدريجيًا نحو التفكك. اقرأ أيضًا| أوروبا في سُبات اقتصادي.. وترامب على وشك إيقاظها بصدمة قاسية