تحتل القضية الفلسطينية أولوية متقدمة ضمن محددات الأمن القومى المصرى والعربى، وتشكل ركنا أساسيا من أركان الدبلوماسية المصرية. ترى مصر بمواقفها العملية أن دعم ومساندة الفلسطينيين «فرض عين» و«واجب» باعتبار القاهرة هى مركز الثقل فى الشرق الأوسط، والدولة التى مضت فى طريق الحرب، ثم اختارت مسار السلام، وتؤمن بأنه لا استقرار ولا أمن طالما بقيت القضية الفلسطينية دون حل أو تسوية. اقرأ أيضًا | «حقوق الإنسان» يُصدر 4 قرارات تُدين الانتهاكات الإسرائيلية فى غزة وما يفرق دور مصر عن غيره من أدوار أنه مستمر ومتواصل ينطلق من ثوابت قائمة على أهمية تغليب مقررات الشرعية الدولية وثوابت القانون الدولى، وهو دور لا ينازعها فيه أحد إقليميا ودوليا، وليس ورقة مساومة أو مقايضة وإنما يستند إلى مبادئ راسخة تتسم بها الدبلوماسية المصرية، لم تتغير أو تتبدل رغم تغير الظروف والشخوص والأحداث. تواجه القضية الفلسطينية منعطفا خطيرا منذ اندلاع عملية «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر 2023، وما تبعه من عدوان إسرائيلى ضد قطاع غزة مستمر حتى كتابة هذه السطور لا يستهدف الرد والانتقام من حركة حماس فقط بقدر ما يسعى لتصفية القضية الفلسطينية، وتغيير شكل وملامح القضية ليس فى القطاع فقط وإنما فى الضفة الغربيةالمحتلة ومدينة القدس أيضا والتخلص نهائيا من أى حقوق فلسطينية. وفى إطار التعامل مع الحرب فى قطاع غزة، فقد سعت مصر - مع الأطراف الدولية المعنية - لاستصدار قرار من مجلس الأمن لوقف إطلاق نار مستدام فى غزة. وبعد شهور من المحاولات المصرية الدبلوماسية المضنية تم التوصل بتوافق بين الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى لاتفاق بضرورة العمل على وقف إطلاق النار فى غزة، ومن هنا انطلقت الدبلوماسية المصرية صاحبة «توكيل» نزع فتيل الحرب بين الفلسطينيين وإسرائيل من خلال جولات تفاوض مكوكية بالتعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين من أجل وضع نهاية للحرب على قطاع غزة، وبالفعل تمكنت مصر من التوصل لاتفاق يقضى بمبادلة محتجزين إسرائيليين لدى فصائل المقاومة فى القطاع بأسرى فلسطينيين، وبإدخال المساعدات الإغاثية إلى غزة. ورغم تعثر الاتفاق الأولى وعدم صموده بفعل السياسات الإسرائيلية، فقد تمكنت مصر مرة أخرى من طرح صيغة اتفاق سمح بهدنة طويلة نسبية بين جيش الاحتلال الإسرائيلى وحركة حماس، كما تم بنجاح إطلاق سراح المزيد من المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين وبإدخال الغذاء والماء والدواء والوقود إلى غزة قبل أن تنقلب حكومة الاحتلال على الاتفاق وتعلن رفضها العمل ببقية مراحل اتفاق الهدنة. دبلوماسيا أيضا، كانت القاهرة من أوائل المتنبهين لحقيقة النوايا الإسرائيلية بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة من خلال عمل جيش الاحتلال على جعل القطاع غير قابل للحياة، وهو ما حذرت منه مصر على كل المستويات، وكانت من أوائل الذين تصدوا لخطط التهجير وإفراغ القطاع من سكانه. وقد جاء هذا التأكيد بشكل متكرر على لسان عدد كبير من المسئولين المصريين، على رأسهم الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى أعلن بشكل واضح، أن تهجير الشعب الفلسطينى لسيناء يمثل خطا أحمر بالنسبة لمصر، وقد أكدت مصر منذ اللحظة الأولى على أن هذا التصعيد يضر بالأمن الإقليمى للمنطقة ككل، وليس فقط بالداخل الفلسطينى. وكذلك أكد الرئيس رفض مصر لما يمكن وصفه بأنه محاولة «لتصفية» القضية الفلسطينية، عبر دفع سكان قطاع غزة إلى مغادرة أراضيهم، حيث أكد أن مصر استضافت بكل ترحاب خلال الأعوام الأخيرة مئات الآلاف من المواطنين من دول مثل سوريا والسودان وغيرهما، لكن فيما يتعلق بسكان قطاع غزة، يختلف الأمر تماماً، حيث توجد ضرورة حتمية لاستمرار صمود أهالى غزة على أرضهم، وعدم مغادرتها بأى حال من الأحوال، لأن هذا سيمثل تحقيقاً لأهداف بعض الأطراف الإسرائيلية، التى تريد إنهاء حالة قطاع غزة بشكل دائم. من هذا المنطلق، جاءت الجهود المصرية لطرح حلول يمكن من خلالها وقف التدهور القائم فى قطاع غزة، وهى جهود بدأ التمهيد لها عبر التواصل الدبلوماسى والسياسى المستمر مع كل الأطراف الإقليمية والدولية، خاصة فى ظل التدمير الواضح الذى طال البنية التحتية لقطاع غزة، والعدد القياسى من الشهداء والجرحى، وتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل لا يمكن قبوله. وطرحت مصر الخطة الأكثر واقعية لإيجاد نقطة ارتكاز واضحة يمكن من خلالها التحرك قدماً وبشكل إيجابى لإيجاد حل نهائى للمعضلات، التى تكتنف القضية الفلسطينية، وهى خارطة طريق طرحتها مصر خلال قمة «القاهرة للسلام» فى أكتوبر 2023 وحضرها أكثر من 30 دولة ومنظمة دولية وإقليمية، وهى القمة التى عبرت بشكل واضح عن الرغبة المصرية فى مواكبة الأحداث فى غزة بشكل عاجل، حيث درجت العادة أن يتم عقد مؤتمرات السلام عقب انتهاء العمليات العسكرية، لكن لم ترغب القاهرة فى انتظار وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، وسارعت بطرح هذه الخارطة من أجل كسب الوقت والعمل على إيجاد وسائل لتطبيقها بالتزامن مع المسارات الأخرى، التى تتحرك فيها لوقف التصعيد الحالى. أعقب ذلك استضافة القاهرة المؤتمر الوزارى لتعزيز الاستجابة الإنسانية فى غزة وذلك فى ديسمبر 2024 ثم جاءت القمة العربية الطارئة، التى عقدت بالقاهرة خلال الشهر الماضى. وتستند القاهرة فى دعمها للقضية الفلسطينية على خطط واقعية وعملية على رأسها خطة إعادة إعمار قطاع غزة بدعم عربى وإسلامى ودولى واسع. بعيدا عن هذا المحور، لم تتوقف مساعى ومحاولات القاهرة لتوحيد الصف الفلسطينى، فعلى خلفية محاولات إسرائيل تحييد أى دور للسلطة الفلسطينية فى ترتيبات اليوم التالى فى قطاع غزة، تسعى مصر جاهدة لخلق مناخ وأفق سياسى مستقر للشعب الفلسطينى فى إطار المصالحة بين فتح وحماس، بهدف تطوير عمل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية فى الأراضى الفلسطينية سواء فى الضفة أو غزة. على المستوى الإنسانى، لم تدخر مصر أى جهد، بدايةً من الضغط لإدخال المساعدات، مروراً بإقامة الخيام ومراكز الإيواء، ووصولاً إلى عمليات إنزال المساعدات من الجو، كما شاركت مصر فى إبداء الرأى والترافع أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، وقدمت مرافعات تفند الادعاءات الإسرائيلية، وتؤكد الحقوق الأصيلة للشعب الفلسطينى. وحظيت الجهود المصرية بتأييد وإشادة واسعة على الصعيدين الإقليمى والدولى مع التأكيد على محوريتها فى أى تحرك نحو تحقيق السلام الدائم والعادل فى المنطقة منذ نشوب الحرب بغزة فى أكتوبر 2023.