القوة الحقيقية التي ترتكن إليها الدول الكبرى في بقائها على الساحة العالمية تكمن في إسهاماتها الثقافية والدينية والفنية القادرة على المواجهة والمغالبة وسط عوالم مفتوحة لا تعرف القيود؛ ولذلك يُخطئ من يتصور أن الرفض المطلق لأفكار العولمة هو الحل الأمثل للحفاظ على هويتنا الثقافية والمعرفية؛ بعدما أصبحت العولمة لغة عالمية وواقعًا نعيشه ونتعامل معه، شئنا أم أبينا، ولكن السبيل الأسلم هو التوافق مع هذه الأفكار العالمية فيما يخدم مصالحنا الحالية ويُحافظ على خصوصيتنا المعرفية؛ فليس من المعقول تجاهل أدوات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وهو اللغة العالمية الوحيدة الآن؛ ولكن يُمكننا التعامل معه وتطويعه بما يخدم معتقداتنا الدينية ورواسخنا الاجتماعية. من هنا جاء التفات القيادة السياسية إلى هذا الجانب البارز من قوتنا الفنية الناعمة مع التوجيه بضرورة تصحيح مسار الدراما الرمضانية لتعود إلى جادة الطريق مرة أخرى، وبما يخدم أفكار الجمهورية الجديدة النازعة إلى التطوير والتحديث والبناء الجمالي، من ناحية، ويحافظ على تماسكنا الاجتماعي وهويتنا الوطنية، من ناحية أخرى. السنوات الأخيرة قد شهدت غلبة لمسلسلات الرقص والعري وتجارة الآثار والتردي الأخلاقي، وهو ما تسبب في نفور الجمهور منها؛ بل ولم يعد يعوّل عليها كثيرًا في المتعة الفنية أو الرسالة الدرامية؛ فلا يُمكن تصديق أن هذا الزيف المموّه صورة حقيقية عن الواقع الاجتماعي المصري بأي حال من الأحوال؛ وكأن المجتمع كله قد ارتكس في وهدات الخذلان الأخلاقي! ولا يمكن الاعتقاد أن هذا الإسفاف موجود في حياة شعب علّم الدنيا كيف تكون الأخلاق العليا هي المكوّن الأول في البناء الحضاري. لا يُمكن أن ننسى كيف كانت الدراما المصرية فاعلة ومؤثرة ودافعة إلى المحافظة على القيم الأخلاقية والعادات الاجتماعية في السنوات السابقة؛ وأكبر دليل على ذلك أن الجمهور يُقبل على الجيد ويروقه الإبداع السامي، وهو ما رأيناه من إعجابه بأعمال: الممرّ، والخلية، والاختيار، وهجمة مرتدة، وغيرها؛ وكلها على خطى: رأفت الهجان، والحفّار، ودموع في عيون وقحة؛ وعشرات الأعمال الاجتماعية الأخرى التي تكشف عن كفاحنا القديم ضد المحتلّ؛ كما تكشف عن خطواتنا الجادة نحو بناء مستقبل أفضل وجمهورية جديدة؛ خاصة مع عودة قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصري إلى العمل، بعدما نفخ أحمد المسلماني فيه جذوة الأمل، تمهيدًا ليعود إلى سابق مجده التليد ليقود قاطرة الإبداع الدرامي العربي. لا أشك لحظة واحدة في قدرة الفن المصري على الانعتاق من ربقة التردّي والانبثاق إلى مستقبل أكثر رحابة وتنويرًا، يُدرك خطورة اللحظة الحالية ويبني رؤى جديدة لأحلام المستقبل.