يحتفظ أبناء جيلى بذكريات ليلة الرؤية عندما كانت أكثر إثارة، وعاشوا لحظات ترقب تسبق حسم الموقف، بإثبات مولد الهلال أو تأجيل إصدار شهادة ميلاده إلى الليلة التالية. وعلى مدى سنوات عمرى عاصرتُ خلافاتٍ بين حسابات الفلك والرؤية، إلى أن اتفقا غالبا عبر أعوام كثيرة، ثم جاء الخلاف الأخير، ليستخدمه الكثيرون فى صياغة منشورات تروى ظمأهم الاستعراضى. الطريف أن حكايات الرؤية ممتدة فى أعماق التاريخ. في نهاية رمضان 1802، كانت الغيوم كثيفة، والأمطار غزيرة مصحوبة ببرق ورعد، مما جعل رؤية هلال العيد مُتعذرة ليلة الأحد، لهذ أضيئت المساجد وشهدت أداء صلاة التراويح، واستعد أهالى القاهرة لصيام يوم جديد، وفجأة انطلقت المدافع بالقلعة والأزبكية، مُعلنة أن الإثنين هو أول أيام العيد! واتضح بعدها أن بعض الوافدين جاءوا من دمنهور، وأكدوا أنهم رأوا الهلال. ذهبوا لبيت الوالى العثمانى ليُخبروه. أرسلهم إلى القاضى الذى تحفّظ على قبول شهادتهم، فاتجهوا إلى بيت أحد كبار الشيوخ وأيّدهم، ليشهد اليوم الجديد مواقف متضاربة، وانقسم المواطنون بين مفطرين وصائمين. وعندما كتب المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتى عن أحداث شهر شوال، بدأه بيوم الثلاثاء وليس الاثنين، وقال:» كان أوله الحقيقى يوم الثلاثاء، وجزم غالب الناس المُفطرين بقضاء يوم الاثنين». بعدها بأعوام مضى رمضان 1820 هادئا، لكن نهايته جاءت مُختلفة، حيث وقع خلاف آخر على رؤية هلال شوّال، وهكذا أقيمت صلاة التراويح، وطاف «المسحراتية» فى الشوارع، وعند الفجر تغيّر الموقف وأعلن أولو الأمر أن اليوم الوليد هو العيد:» وأصبح العيد باردا»! حسب رأى الجبرتى. الجدل قديم إذن، لكن يبدو أننا صرنا أكثر إدمانا ل»البلبلة»، رغم أن كثيرين منا يحتفظون بوقائع ارتباك عاشوها ومرّت سريعا، لمجرد أن ماكينات التواصل الاجتماعى لم تكن قد اختُرعت بعد، ومع دوران تروسها جذبت العيد لدوائر صخبنا، فاستخدمناه مادة للجدال منزوع المنطق! بعيدا عن الضجيج أتمنى للجميع عيدا أكثر سعادة.. وأقل جدلا!