قدم لى نفسه قائلا: أخوك رومانى من أسيوط، فأومأت مرحبا ومقدما نفسى: وأخوك هشام من الأقصر الميراث ورثت عن والدى رحمه الله أن أكون أول من يصل محطة السكة الحديد لو كنت مسافراً بالقطار، أو الميناء الجوى لو كنت مسافراً بالطائرة، والميناء البحرى لو كانت وسيلة النقل الباخرة وهو ما حدث مرة واحدة عام 1995 حيث كنت متجها لأداء العمرة بصحبة شقيقاتى الصغار. لم أتخلف يوما عن هذه العادة الحميدة، على الأقل من وجهة نظر والدى الذى كان يقول لى: ما لا ينتظرك عليك انتظاره. وكان يطبق تلك النصيحة على نفسه فكان على سبيل المثال يصل محطة الأقصر منتظراً قدوم القطار المتجه للقاهرة قبل أن يتحرك هذا القطار من محطة أسوان التى تفصلنا عنها مسافة أكثر من ثلاث ساعات كاملة!!. لذا تعلمت منه أن أصل المحطة قبل سائق القطار وإلى المطار قبل الطيار، وإلى الباخرة قبل الربان، ولرحلتى الوحيدة بالباخرة تفاصيل ربما تستحق أن نفرد لها يوميات كاملة. المهم أننى قد حدث معى مؤخرا فى مطار كينيدى بنيويورك حكاية وددت أن أشارككم تفاصيلها، فقد وصلت كعادتى مبكرا جدا فى حوالى الثامنة والنصف صباحا بينما موعد الطائرة التى ستقلنى للقاهرة الواحدة ظهرا تقريباً. ومع ذلك وجدت أن هناك كثيرا غيرى ممن يطبقون نفس نظرية والدى. وقفت فى الطابور ولم يكن موظفو الشركة الذين سيتولون مراجعة جوازات السفر والتذاكر قد احتلوا أماكنهم بعد على «كاونترات» الرحلة، وفى تمام التاسعة بدأ الطابور الطويل أمامى يتحرك بسلاسة ويسر، فى تلك اللحظة تقدم منى شاب من خارج الطابور وسألنى إن كنت مسافراً للقاهرة فأجبت بنعم. فأشار إلى سيدة عجوز تجلس على كرسى وقال لى: هذه أمى مسافرة معك على نفس الطائرة هل يمكنك أن ترعاها؟ قلت نعم بكل ممنونية وطيب خاطر، لا تقلق عليها فهى مثل أمى. كانت السيدة تنظر لنا مبتسمة. وفوجئت بالشاب يودعها وقد كنت أظنه أنه سينتظر معنا حتى قبيل موعد إقلاع الطائرة لكن فهمت منه أنه لا بد أن ينطلق إلى عمله حيث يسكن ويعمل فى بنسلفانيا التى تبعد ثلاث ساعات عن نيويورك. سألته عن اسمه ورقم تليفونه حتى أتمكن من التواصل معه حتى يطمئن على والدته على الأقل طيلة الوقت الذى سنقضيه بالمطار حتى موعد السفر: فقال لى: أخوك رومانى من أسيوط، فأومأت مرحبا ومقدما نفسي: وأخوك هشام من الأقصر. ثم احتضن رومانى والدته بعد أن قدمنى لها قائلاً: إن شقيقه عصام سوف ينتظر والدته فى مطار القاهرة. وقبل أن يغادرنا همس فى أذنى قائلاً: الله يكرمك اعتنى بها جيدا فهى تعانى من آلزهايمر فى مرحلة متقدمة وتنسى الأسماء والأشياء كثيراً جدا، وقبل أن أستوعب ما قاله رومانى كان قد غادر بسرعة لينقذ سيارته من مخالفة مرورية موجعة لو ظلت أمام صالة السفر. خالتى أم فايق نظرت للسيدة من جديد نظرة مختلفة هذه المرة.. كانت تنظر لى بحنية بالغة وهى تضع على رأسها إيشارب كعادة كل السيدات فى مصر ممن هن فى نفس سنها، الاحتشام خلق رفيع عند غالبية المصريات، وجهها وكل ما فيها جعلنى أتذكر خالتى أم فايق، جارتنا القبطية العزيزة فى بيتنا القديم حيث كنا نسكن فى منطقة شرق السكة الحديد بالأقصر. قضينا فى هذا المنزل سنوات كثيرة من الطفولة، كنا وشقيقاتى نقول: بيت خالتى أم فايق وكان أولادها وبناتها يقولون بيت خالتى أم هشام، لا زلت أتذكر زوجها عمى فؤاد أو أبو فايق كما كانت كنيته وابنه الكبير فايق وبناتهما سهير وسناء وكذلك أندادى أيمن ومحسن ومحب، حيث كنا نرتع ونلعب سوياً فى مدخل العمارة، كان فايق يساعد والده النجار المتميز فى صناعة الأثاث. لايزال لدينا قطع من صنع يديه مر عليها ربما أكثر من سبعين عاما ولا تزال تحتفظ ببريقها وجودتها العالية. كانت أسرة رائعة، أيديها - كما يقول المثل الشعبى - «تتلف فى حرير». ورغم أننا انتقلنا لشقة أوسع فى شارع المنشية إلا أن علاقتنا ببيتنا القديم استمرت قائمة وكانت من أحلى الليالى التى ننتظرها عندما نزور أسرة خالتى أم فايق وأسرة خالتى أم محمد وخالتى نادية عزت جيراننا الكرام فى نفس العمارة.. أفقت من سرحانى مع ذكرياتى فى بيتنا القديم على صوت خالتى الجديدة أم رومانى التى ظل لسانها فى البداية يلهج بالدعاء لى بأن ربنا سيمنحنى أجورا كثيرة لأنى وافقت على رعاية سيدة لم أعرفها مسبقا، فقلت لها صادقاً لا مجاملاً: لا تقولى ذلك من فضلك فأنتى مثل خالتى أم فايق بل ومثل أم هشام، أمى رحمهما الله. هنا فوجئت بها تندهش من سماع اسمى وتسألنى عمن يكون هشام هذا؟! وقبل أن أشرح لها سألتنى بكل ثقة: ألست أنت ابنى رومانى ؟!. طبعا أسقط فى يدى قبل أن أتذكر ما همس به رومانى لى به قبل مغادرته فقلت لها: نعم يمكنك أن تعتبرينى مثل رومانى لكنها أصرت على كلامها مؤكدة وهى تبتسم: ألا تكف يا رومانى عن مقالبك، هل نسيت اسمك يا ولدى؟! فتظاهرت بأنى نسيت فعلا وأن بى بعض اللخبطة وقلت لها: لا عليك فأنا فعلا ولدك رومانى وهيا نستعد يا أمى لدخول صالة السفر. فى تلك اللحظة جاء أحد العاملين بالمطار بكرسى متحرك ليقل أم رومانى حتى وصولها لصالة السفر. لم تكن السيدة عاجزة عن الحركة والحمدلله ولكنها لن تتحمل المشى مسافات طويلة فى المطار. كان الرجل أمريكيا أفريقيا مسلماً من أصحاب البشرة السوداء، ما إن رآنا حتى تهللت أساريره وقال بعربية ركيكة جدا: السلام عليكم ولم يكتف بالتحية بل وبدأ يتلو بعض الآيات القرآنية. ثم قال لى بعد أن أجلسنا أم رومانى على الكرسي: سلمنى جواز سفرك وجواز سفر والدتك وأتبعنى فمن حقنا أن نجتاز كل هذا الطابور الطويل لنكون فى المقدمة بسبب حالة والدتك. لم أكذب الخبر طبعا واخترقنا كل طوابير الانتظار والرجل يردد آيات القرآن ويسألنى عن اسمى واسم والدتى وعن علاقتنا بالقرآن وكم جزءا أحفظ أنا وكم تحفظ أمى خاصة أن شهر رمضان على الأبواب، فقلت له ضاحكاً: مش عارف أقولهالك ازاى بس أمى التى أمامك ليست مسلمة ولكنها قبطية ونحن فى مصر لا نفرق بين مسلم وغير مسلم وكلنا أهل وأشقاء. طبعا لم يقتنع الرجل وقال لى بالانجليزية أنه سمع كثيراً عن خفة دم المصريين لكن هذه أول مرة يجد خفة دم تقول: إن الابن مسلم والأم قبطية، فقلت له هذا الموضوع شرحه يطول وربما لو عدت لأمريكا مرة أخرى قريبا تكون هناك فرصة لأشرح لك الموقف بالظبط. فى صالة التفتيش المفاجأة الكبرى كانت عندما وصلنا إلى التفتيش النهائى قبل الدخول لصالة السفر وهى المرحلة التى تتطلب من المسافر أن يخلع حذاءه وأى جاكيت مثلا وكانت أم رومانى ترتدى بالطو فطلبوا منها أن تخلعه وكذلك الإيشارب الذى تضعه على رأسها وهنا ثارت ثائرة أم رومانى ورفضت بشكل قاطع أن تخلع أى شيء وعبثاً حاولت التحدث مع مسئولى التفيش عن حالتها المرضية حيث رفضوا تماما بل وطالبونى كابنها أن أقنعها بضرورة اتباع التعليمات وإلا لن تسافر فاقتربت منها لأهمس فى أذنها بأن سفرنا مهدد لو لم تخلع البالطو والإيشارب فهبت فى وجهى قائلة: هى الدنيا جرى فيها إيه يارومانى.. عايز أمك تخلع هدومها بره البيت.. عشنا وشوفنا، أنت لاابنى ولا اعرفك.. هل نسيت يا رومانى أننا صعايدة.. كيف ترضى لأمك أن تتعرى أمام ناس غريبة؟!..ظللت أربت على كتفها حتى هدأت تماماً ووافقت على إجراءات التفتيش ووصلنا أمام بوابة المغادرة والعامل الأمريكى يودعنا بالدعاء لأمى بالشفاء. وعندما دخلنا الطائرة وطوال رحلة العودة للقاهرة ظلت أم رومانى تظن أننى ابنها رومانى.. حتى عندما وصلنا للقاهرة ووجدنا ابنها عصام فى انتظارنا ليصطحبها فى سيارته اندهشت لأننى لن أركب معهما وقالت لى وأنا أودعها إلى أين تذهب يا رومانى؟ قلت لها: هاروح بيتى يا أمى أسلم على ولادى وأبقى اجيلك بإذن الله. وودعتها داعيا الله عز وجل أن أكون قد أحسنت التصرف تجاه هذه السيدة الجميلة التى حاولت خلال ما يقرب من 14 ساعة أن أكون لها ابنا بارا. فمن المؤكد أننى مهما تقمصت شخصية رومانى فلم أفعل ما كان سوف يفعله رومانى تجاه أمه. وعندما غادرت سيارة عصام المطار بأم رومانى أو بأمى إن شئت الدقة فرت الدمعة من عينى بعد أن ظلت تشير لى بمداومة السؤال عنها وبألا أنساها. كل سنة وأنتى وكل أم طيبة واطمئنى يا أم رومانى فلا يمكن للمرء ان ينسى أمه. نهاية الرحلة «النسيان هو أحسن دواء للبشر فى رحلتهم المريرة»