أغلى ما تمتلكه مصر هو الإنسان، وأنبل ما فى هذا الإنسان هو تلك الروح الوطنية المتجذرة فى أعماقه، تلك الروح التى تجعله لا يتردد لحظة واحدة فى تقديم روحه - راضيا مرضيا - فداء لوطنه. وعلى مدى قرون طويلة احتفى المصريون بقيم الفداء والشهادة، ومع كل منعطف تخوضه الدولة كان يُضاف إلى قوائم المجد وسجلات الشرف أسماء جديدة، تؤكد رسوخ قيمة حب الوطن فى جينات هذا الشعب، وقدرته على التمسك بأرضه واستقرار وطنه بأى ثمن. لا زلت أتذكر حكايات الشهداء التى يرويها والدى عن رفاق السلاح فى حرب أكتوبر المجيدة، وكأنهم أبطال أسطوريون يأتون من عالم آخر، لكن عندما أتأمل وجوههم فى الصور القديمة التى ظل محتفظا بها حتى رحيله، لا ألمح سوى وجوه تشبه كل المصريين، نفس العيون الطيبة والملامح المطمئنة والروح المسالمة. وعندما أستعيد وجوه شهداء الوطن فى مواجهة الإرهاب، لا أجد سوى شباب أراهم كل يوم فى الشارع وفى مدرجات الجامعة وفى وسائل المواصلات، ربما لم يكتشفوا بداخلهم تلك القدرة على التضحية، لكنهم استعادوا فى لحظة النداء كل مخزون الفداء الكامن تحت جلودهم، فتحولوا أسودا تفترس أعداءهم وتصون عرض الوطن بدمائهم. ■■■ أتذكر شهادات لقيادات تنظيمات الإرهاب فى دول عديدة أبتليت بهذا الطاعون الغادر، كانت تلك التنظيمات تراهن على تكتيك «الصدمة والرعب»، حيث تبدأ بهجوم مباغت يدفع القوات التى تواجهها إلى الفرار تاركة عتادها ومعداتها طمعا فى البقاء على قيد الحياة، لكن عندما حاولت تلك التنظيمات استخدام نفس التكتيك فى مصر مُنيت بفشل ذريع، فقد كان الجنود الذين يقومون بتأمين الأكمنة والمنشآت الحيوية يبادرون إلى الاندفاع نحو مصدر الهجوم، يفتدون بأرواحهم زملاءهم ويطلقون صيحة التحذير لرفاقهم من خلفهم قبل أن يندفعوا مقبلين على الموت، اندفاع غيرهم نحو الحياة. أستعيد بطولات آلاف الشهداء من رجال القوات المسلحة والشرطة، وحكايات يبكى لها القلب قبل العين عن لحظات استشهادهم، وكيف كانوا يتسابقون إلى الموت ويتواعدون على اللقاء فى الجنة، وكيف كان بعضهم ممن يُصاب فى العمليات يصر على العودة إلى سيناء أملا فى الثأر لرفاق السلاح الذين سبقوه على درب الشهادة، فأوقن كم هذا الوطن عظيم بأبنائه، ولماذا بقى وسيبقى صخرة صلبة عنيدة فى مواجهة مخططات العدوان ومؤامرات نشر الفوضى ومحاولات سرقة الأوطان. ■■■ اليوم تكتسب تلك الروح الوطنية التى ميزت الشعب المصرى على مدى تاريخه العريق وجها جديدا فى مواجهة تحديات غير مسبوقة فى تاريخنا، فمجرد التماسك الشعبي، والوعى بخطورة ما يُحاك لنا والتمسك بثوابت تلك الروح الوطنية التى لا تقبل تفريطا فى أرض أو تنازلا عن مبدأ، باتت تضحية بحد ذاتها وقيمة ينبغى أن نعض عليها بالنواجذ. وأتوقف أمام تعبير استخدمه الرئيس عبد الفتاح السيسى أمس فى كلمته فى الندوة التثقيفية ال41 بمناسبة يوم الشهيد، وهو «وحدة شعب وصلابة جيش»، كسبيل لتحقيق النصر والحفاظ على استقرار الوطن. نعم وحدة هذا الشعب كانت دائما الرداء الذى نتدثر به فى مواجهة عواصف «فرق .. تسد»، وأعاصير تهب على منطقتنا من حين لآخر تحاول أن تثير نوازع الفتنة وتشعل فتيل الشقاق بين مكونات الشعب الواحد، لكنها فى مصر سرعان ما تصطدم بحائط صلد صنعته تجارب الصمود فى وجه الأعداء من كل لون وجنس، وجعلت من المصريين سبيكة متماسكة تتجسد قوتها الحقيقية فى لحظات الأزمة وأوقات الخطر. أما الجيش فله فى مصر مكانة خاصة، فهو دائما الدرع والسيف، بل هو العمود الذى تستند إليه خيمة الوطن، فيبقيها مظلة حامية ليس فقط لأبناء الوطن، بل يجعلها ملاذًا لكل الأشقاء الذين ذاقت أوطانهم مرارة الفتنة وألم الصراعات. والجيش فى مصر ليس مجرد مؤسسة عسكرية احترافية تؤدى واجبها وفق الدستور والقانون، لكنه كيان خالد له حضور فى كل بيت مصري، فضباط الجيش وجنوده هم أبناء هذا الشعب، يأتون من كل ربوعه ليخدموا الوطن سواء بصورة دائمة أو مؤقتة، وفى عقل وقلب كل منهم يقين لا يتزحزح بأنهم امتداد لتاريخ عريق من التضحية، وأوراق خضراء فى شجرة الوطن الوارفة التى ستبقى بهم أصلها ثابت وفرعها فى السماء. ■■■ أتأمل مشاهد الأبطال من شهداء الوطن فأشعر بامتنان عميق لما قدموه من تضحيات صانت الوطن ومنحتنا أمنًا واستقرارًا ننعم به اليوم، وأملًا فى غد أفضل وسط محيط مشتعل بالأزمات، وأتوقف أمام حديث أبناء الشهداء خلال احتفالية «يوم الشهيد» وأستمع إلى صدق كلماتهم وتدفق مشاعرهم فأطمئن إلى أن هذا الوطن باق ما بقيت تلك الروح الوطنية فى قلوبنا، فهذه ذرية بعضها من بعض، سلسال التضحية فيها لا ينقطع، وينابيع الفداء فيها خالدة خلود النيل. أشاهد احتضان الرئيس لأبناء الشهداء وحنوه عليهم، فأستشعر أن الوطن كله يحتضنهم، إنه يقول لهم بلسان كل مصرى «لستم وحدكم.. كلنا إلى جانبكم»، والحقيقة أن احتضان الدولة لأسر الشهداء ليس موقفًا عاطفيًّا أو تجسيدًا لقيمة الوفاء، لكنه رسالة واضحة بأن مصر لا تنسى تضحيات أبنائها من مختلف القطاعات، وأن الشهادة فى سبيل الوطن معنى يجسده كله من يخلص فى أداء واجبه عسكريًّا كان أو مدنيًّا، فكل من يتفانى فى أداء رسالته وتقديم واجبه الوطنى على مصلحته الشخصية فهو فى منزلة الشهداء. إن الاحتفاء بيوم الشهيد قيمة كبيرة وضرورة ينبغى أن تتواصل، فالمعركة اليوم هى معركة بناء وعى وطنى جاد فى ظل حالة من الاضطراب الإقليمى والدولي، ومحاولات لا تتوقف للتلاعب بالعقول، وطوق النجاة هو التمسك بالوطن وثوابته، وتقديم نماذج للقدوة التى نريد لأبنائنا أن يسترشدوا بها، فحرب تحرير سيناء ثم تطهيرها من الإرهاب، ليست فصلًا من التاريخ نتذكره مرة أو مرتين كل عام، لكنها قصة بطولة وجزء من حكاية هذا الشعب، ينبغى أن نظل نرويها كل يوم كى تبقى حية فى عقول وقلوب من يخوضون معركة «التعمير». ولا يفوتنى فى هذا السياق أن أحيى القائمين على احتفالية يوم الشهيد، من رجال إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، فقد استطاعوا بأسلوب سلس وبتوظيف أدوات فنية راقية أن يجسدوا المعنى، وأن يحققوا باستثمار أدوات القوة الناعمة التواصل بين الفكرة والواقع، فتحول الاحتفال إلى لوحة وطنية وفنية تلامس القلوب وتخاطب العقول. كل عام ومصر آمنة مستقرة بفضل ربها، ثم بوحدة وتماسك شعبها، وبصلابة جيشها.