مع تسارع إيقاع عداد العُمر، فقدتْ غالبية المناسبات مذاقها، الاستثناء الوحيد الذى خرج عن هذا السياق هو شهْر رمضان، يعرف كيف يحتفظ بتأثيره وسط دوامات الحياة، ويمنحنى استقباله حالة من الاسترخاء النفسي، لا تنقلب عادة إلى كسلٍ يعانى منه كثيرون، ممن اعتقدوا أن العمل مرفوعٌ من الخدمة مؤقتاً فى هذا الشهر الكريم. فى مهنتنا، تضيع معالم اليوم غالباً، ونفاجأ بأنه انتهى دون أن نشعر، غير أن الأمر فى رمضان يبدو أكثر نظاماً، حيث يتضح تماماً الحد الفاصل بين النهار والليل، تنتهى الطبعة الأولى للجريدة قبل أذان المغرب، ويصير الليل أكثر امتداداً مما هو عليه عادة فى الشتاء، قد تزيد الانفعالات نسبياً لكنها تظل مؤقتة، عندما نتذكر أن الصوم ليس قاصراً على الامتناع عن الطعام، ونُمنى أنفسنا بمرور الساعات القليلة، لنلتقى بعد الإفطار بفنجان قهوة يصبح أكثر إبهاراً. أبناء جيلى عايشوا طقوساً تراجعتْ أمام سطوة شاشات التليفزيون والمحمول، لهذا تختلط ذكريات الماضى «الأبيض والأسود» بالحاضر المصبوغ بالألوان، ونستعيد ما تبقى منها فى الذاكرة بعد الإفطار، عبر حكايات مُكرّرة نرويها بالإكراه للأبناء، أو لمن يوقعهم حظهم العاثر فى طريقنا من زملاء العمل الأصغر سنّا، وتتحول حواديت الليالى البعيدة وفوانيسها وفوازيرها المنقرضة، إلى مادة متداولة نراها مثيرة، بينما يعتبرها الشباب محاولة بائسة لاقتناص ماضٍ جذاب لنا وحدنا، فى البدء يستمع هؤلاء لنا باحترام، ومع الوقت يتخذون منها ومنا مادة للتندّر، لن أقول السخرية لأنهم لا يزالون يحتفظون ببقايا احترام لنا.. حتى الآن. مع أول تعليق ساخرٍ من أحدهم، أذكّره بأن الكأس نفسها تدور علينا، وذات يوم سوف يجلس فى مقعدي، ويجتر ذكرياته التى يعتبرها أبناء المستقبل بضاعة راكدة. رغم التغيرات التى نالت منا، سيظل الشهر الكريم قادراً على الاحتفاظ بمؤثراته، تُثبت ذلك نظرات عابرة على موائد الرحمن والمقاهى المُتخمة بروّادها، وزحام الأحياء الشعبية التى تبقى القلب النابض لطقوس كادتْ تندثر. عموما، كل عام وأنتم بخير.