فى ظل الأزمة الأوكرانية المتواصلة، اتخذ الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نهجًا مثيرًا للجدل بالسعى إلى التفاوض مباشرة مع روسيا لحل النزاع، متجاهلًا أوربا ومصالحها الأمنية، وقد أثارت هذه الخطوة ردود فعل غاضبة من القادة الأوربيين الذين يسعون لضمان عدم تهميش دورهم فى أى تسوية محتملة. ومنذ بداية الأزمة الأوكرانية وأوربا تلعب دورًا أساسيًا فى دعم أوكرانيا ضد العدوان الروسي، من خلال فرض عقوبات على موسكو وتقديم الدعم السياسى والعسكرى لكييف. اقرأ أيضًا | من الرياض إلى القاهرة خريطة طريق عربية ضد التهجير ومع ذلك، فإن مجريات الأحداث الأخيرة كشفت عن شرخ بين الولاياتالمتحدة وأوربا، حيث أظهر ترامب رغبة فى إقصاء حلفائه الأوربيين من المفاوضات والسعى إلى حل ثنائى مع روسيا، ويعكس هذا النهج استراتيجية ترامب التى تسعى إلى تقليص الالتزامات الأمريكية التقليدية تجاه حلف شمال الأطلسى (الناتو) والاعتماد على الدبلوماسية الفردية بدلاً من التعاون المتعدد الأطراف. وقد أثار هذا التحول غضبًا فى العواصم الأوربية، حيث دعت فرنساوألمانيا والمملكة المتحدةوإيطاليا وبولندا وإسبانيا ودول أخرى إلى اجتماع طارئ لمناقشة استراتيجيات الرد على التحركات الأمريكية. وقبيل انعقاد الاجتماع مؤخرا فى العاصمة الفرنسية باريس، أشار المبعوث الأمريكى الخاص لأوكرانيا كيث كيلوج إلى أن واشنطن لا تريد الأوربيين على طاولة المفاوضات. ورأى القادة الأوربيون أن استبعادهم من هذه المفاوضات يهدد المصالح الأوربية ويعزز النفوذ الروسى على حساب الأمن الإقليمي. وأعلنت رئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون دير لايين فى رسالة مشتركة مع رئيس المجلس الأوربى أنطونيو كوستا، أن الاجتماع الطارئ الذى عقده القادة الأوربيون فى باريس، أكد على أن أوكرانيا «تستحق السلام عبر القوة». وأكد رئيس المجلس الأوربى أنطونيو كوستا على ضرورة مشاركة أوربا فى أى مفاوضات تتعلق بالأزمة الأوكرانية، محذرًا من أن استبعادها سيجعلها رهينة لقرارات القوى الكبرى دون أن يكون لها دور فعلى فى رسم مستقبل الأمن الأوربي. وأشار كوستا إلى أن روسيا تمثل تهديدًا يمتد إلى ما بعد أوكرانيا، مما يستدعى موقفًا أوربيًا موحدًا. وقد شكلت الدول الأوربية تحالفًا جديدًا تحت مسمى «مجموعة فايمار»، يضم فرنساوألمانيا وبولندا إلى جانب المملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا والمفوضية الأوربية. ويهدف هذا التحالف إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجى لأوربا وإعادة تقييم علاقاتها الدفاعية مع الولاياتالمتحدة. كما تسعى المجموعة إلى لعب دور أكثر نشاطًا فى أى محادثات مستقبلية بشأن أوكرانيا، لضمان عدم التفريط فى المصالح الأوربية أو ترك الملف بالكامل فى أيدى موسكووواشنطن. وقد بحثت القمة الأوربية تعزيز القدرات الدفاعية الأوربية وتوسيع التعاون العسكرى بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوربي، مع بحث إمكانية إرسال قوات حفظ سلام أوربية إلى أوكرانيا، فى حال تدهورت الأوضاع أكثر، وهى الملفات التى شهدت خلافات بين الدول الأوربية. وتطالب باريس وبرلين بتعزيز القدرات الدفاعية الأوربية من خلال زيادة الإنفاق العسكرى وتكثيف التدريبات المشتركة، ومواصلة دعم أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والإنسانية، فى محاولة لمنع انهيار الجبهة الأوكرانية. لكن هناك دولا أخرى مثل بولندا ودول البلطيق تتمسك باستمرار الوجود الأمريكى القوى فى القارة، خوفًا من أن تؤدى أى خطوة نحو الاستقلال الدفاعى الأوربى إلى تقويض الضمانات الأمنية التى يوفرها حلف الناتو. كما تسعى بريطانيا إلى لعب دور الوسيط بين أوربا والولاياتالمتحدة، حيث يحاول رئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر التأثير على قرارات ترامب وضمان استمرار الدعم الأمريكى لأوكرانيا، إلا أن بعض المسؤولين الأوربيين يشككون فى قدرة بريطانيا على إحداث تغيير حقيقى فى موقف واشنطن، خاصة فى ظل التوجهات الانعزالية لإدارة ترامب. وعلى صعيد آخر انتقدت المجر، التى لم يُدع رئيس وزرائها فيكتور أوربان المقرب من بوتين وترامب لاجتماع باريس، من وصفتهم ب «القادة الأوربيين المحبطين المؤيدين للحرب والمعارضين لترامب والذين يجمعون على منع التوصل إلى اتفاق سلام فى أوكرانيا». وبالإضافة إلى الخلافات السابقة، شهدت القمة الأوربية انقساما حول مسألة إرسال قوة حفظ سلام أوربية لأوكرانيا حيث أكد رئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر استعداد بلاده لإرسال قوات حفظ سلام إلى أوكرانيا إذا تطلب الأمر، مشددًا على ضرورة تقديم التزامات أوربية قوية لتعزيز الأمن الجماعي. ففى مقال نُشر فى صحيفة ديلى تلغراف البريطانية، كتب ستارمر قائلا إنه «مستعد وراغب فى المساهمة فى ضمانات الأمن لأوكرانيا من خلال وضع قواتنا على الأرض إذا لزم الأمر». كذلك أعلنت السويد أنها لا تستبعد نشر قوات إذا سمحت المفاوضات بإرساء سلام عادل ودائم. ومن ناحية أخرى، اعتبر المستشار الألمانى أولاف شولتس أن النقاش بشأن إمكان إرسال قوات إلى أوكرانيا غير مناسب وسابق لأوانه. وأكد رئيس الوزراء البولندى دونالد توسك أن بلاده لن ترسل قوات إلى أوكرانيا. كما أن دولا أخرى مثل إيطاليا والنرويج، لم تقرر بعد موقفها من دعوة ستارمر، وقال مصدر دبلوماسى لصحيفة التلغراف: «المناقشة بأكملها غير ذات جدوى بدون مشاركة ألمانيا وبولندا». ومن جانبه، أشاد الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى بإعلان ستارمر، وقال إنه بداية «مهمة» للمداولات الأوربية بشأن حشد قوة حفظ السلام. يأتى هذا بعد أن قال زيلينسكى إنه لن يعترف بأى اتفاق سلام بشأن أوكرانيا تتم صياغته بدون أوكرانيا. ورغم الجهود الأوربية، يبقى السؤال مطروحًا حول مدى قدرة أوربا على فرض نفسها كلاعب رئيسى فى المشهد الجيوسياسى الحالي، خاصة مع افتقارها لآلية دفاعية موحدة ومستقلة. ويعكس استبعاد أوربا من المفاوضات بين الولاياتالمتحدةوروسيا تحديًا استراتيجيًا خطيرًا، حيث تجد القارة نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم نهجها الأمنى والدبلوماسي. وبينما تواصل العواصم الأوربية الضغط من أجل إشراكها فى أى مفاوضات مستقبلية خاصة بأوكرانيا، يبقى مصير الأزمة الأوكرانية معلقًا على قدرة الغرب على التنسيق المشترك وإيجاد حل يضمن الاستقرار دون التضحية بمصالح أوكرانيا وأمن أوربا.