تزخر القاهرة التاريخية بالعديد من المساجد الأثرية التي تعكس عظمة العمارة الإسلامية عبر العصور، ومن بين هذه المساجد المميزة يبرز مسجد قجماس الإسحاقي، المعروف بين العامة باسم "مسجد أبو حربية". شُيِّد هذا المسجد في القرن الخامس عشر الميلادي على يد الأمير المملوكي سيف الدين قجماس الإسحاقي، وهو أحد أبرز قادة السلطان الأشرف قايتباي. يتميز المسجد بتصميمه الفريد، وزخارفه المملوكية الرائعة، واحتوائه على قبة ضريحية وسبيل وكتاب، مما يجعله نموذجًا حيًا لفنون العمارة الإسلامية في عصر المماليك الجراكسة. اقرأ أيضًا| «بيت الست وسيلة» جوهرة العمارة الإسلامية وقصة اسمها الذي تجاوز الزمن ورغم مرور أكثر من خمسة قرون على بنائه، لا يزال هذا المسجد محتفظًا برونقه وأصالته، خاصةً مع وجوده على ورقة البنكنوت المصري فئة 50 جنيهًا، مما يعكس قيمته التاريخية والفنية. في هذا التقرير، نستعرض قصة بناء المسجد، تفاصيله المعمارية، وأبرز الشخصيات المرتبطة به، إضافةً إلى دوره الروحي والاجتماعي عبر العصور. "مسجد قجماس الإسحاقي".. تحفة معمارية شاهدة على عصر المماليك : أولًا: موقع المسجد وأهميته التاريخية: اقرأ أيضًا| نقيب الأشراف: مسجد مصر إنجاز في فن العمارة الإسلامية يقع مسجد قجماس الإسحاقي في قلب القاهرة، تحديدًا في حي الدرب الأحمر، أحد أقدم الأحياء الإسلامية وأغناها بالمعالم الأثرية. بُني المسجد بالقرب من باب زويلة، أحد بوابات القاهرة الفاطمية، ليكون شاهدًا على العصر المملوكي الذي ازدهرت فيه الفنون الإسلامية بشكل غير مسبوق. ويحظى المسجد بشهرة واسعة بين أهل القاهرة، خاصةً بعد أن ارتبط اسمه بالشيخ أبو حربية، الذي أقام به ودُفن في الضريح الملحق به، ليصبح اسمه المتداول بين الناس "مسجد أبو حربية"، بينما يحمل اسمه الرسمي اسم منشئه "قجماس الإسحاقي". ثانيًا: الأمير قجماس الإسحاقي.. من هو منشئ المسجد؟ يعود الفضل في بناء المسجد إلى الأمير سيف الدين قجماس الإسحاقي الظاهري، أحد أمراء المماليك الجراكسة، الذين حكموا مصر في عهد السلطان الأشرف قايتباي (1468-1496م). كان قجماس الإسحاقي من القادة البارزين في الدولة المملوكية، وشغل مناصب هامة، لكنه لم يدفن في المسجد الذي بناه، بل آثر أن يكون مكان دفنه في موقع آخر، ليحتضن المسجد لاحقًا ضريح الشيخ أحمد أبو حربية. ثالثًا: تخطيط المسجد وعناصره المعمارية يتميز مسجد قجماس الإسحاقي بتخطيط معماري مستوحى من المدارس الإسلامية في العصر المملوكي، حيث يتألف من صحن أوسط مكشوف تحيط به أربعة إيوانات، أكبرها إيوان القبلة، الذي يتميز بزخارفه الرخامية المميزة والمحراب ذي الزخارف الملونة والنقوش الكوفية. ومن أبرز العناصر المعمارية للمسجد: اقرأ أيضًا| حكايات| «مسجد بيبي خانم».. جوهرة سمرقند ومفترق طرق الثقافات بين التاريخ والترميم 1. الواجهة الرئيسية: تطل على شارع الدرب الأحمر وتتميز بزخارف حجرية رائعة، تتخللها مقرنصات تحاكي جمال العمارة المملوكية. 2. المئذنة: تتألف من ثلاث دورات بتصميم مملوكي أنيق، وتعد واحدة من أجمل مآذن القاهرة الإسلامية. 3. السبيل والكتاب: يقعان بجوار المدخل الرئيسي، حيث كان السبيل يوفر المياه للمارة، بينما كان الكتاب مخصصًا لتعليم الأطفال وحفظ القرآن الكريم. 4. القبة الضريحية: تعلو ضريح الشيخ أبو حربية، وتُعتبر نموذجًا رائعًا لفن الزخرفة المملوكية. 5. الدكاكين أسفل المسجد: صُممت لتوفير مصدر دخل دائم لإنفاقه على صيانة المسجد، وهي فكرة مملوكية ذكية لضمان استمرارية العناية بالمباني الدينية. رابعًا: روعة الزخارف وفنون العمارة في المسجد يُعد مسجد قجماس الإسحاقي نموذجًا فريدًا لفنون العمارة المملوكية، حيث تظهر دقة الصناعات المختلفة التي تميز هذا العصر، ومنها: - أعمال النجارة الدقيقة في الأبواب والمنبر. - الزخارف الرخامية المتنوعة التي تزين جدران الإيوان الرئيسي. - النقوش القرآنية بالخط الكوفي المزهر التي تضفي لمسة روحانية مميزة على المحراب. - المقرنصات الحجرية التي تعلو الواجهات وتزين المداخل. خامسًا: الدور الديني والاجتماعي للمسجد عبر العصور لم يكن مسجد أبو حربية مجرد مكان للصلاة، بل لعب دورًا بارزًا في الحياة الدينية والاجتماعية لسكان المنطقة، حيث كان: - مركزًا دينيًا وتعليميًا من خلال الكتاب الملحق به. - مكانًا لإقامة حلقات الذكر والتصوف خاصة بعد دفن الشيخ أبو حربية به. - مركزًا اجتماعيًا لأهالي الحي حيث كانت تقام به المناسبات الدينية والاحتفالات الإسلامية. سادسًا: المسجد على العملة المصرية.. شهادة على قيمته الأثرية تقديرًا لقيمته المعمارية والتاريخية، اختير مسجد قجماس الإسحاقي ليكون واجهة ورقة البنكنوت المصري فئة 50 جنيهًا، مما يجعله أحد المعالم القليلة التي تحظى بهذا التكريم، إلى جانب مساجد تاريخية أخرى مثل مسجد السلطان حسن. سابعًا: جهود الترميم والحفاظ على المسجد على مدار العصور، تعرض المسجد لعوامل الزمن والتأثيرات البيئية، مما استدعى جهودًا كبيرة للحفاظ عليه، ومن أبرز عمليات الترميم: - ترميم الواجهات الخارجية وإعادة تنظيف الزخارف الحجرية. - إصلاح المئذنة والقباب التي تأثرت بعوامل الطقس. - إعادة تأهيل الدكاكين السفلية لتتناسب مع الاستخدامات الحديثة. ثامنًا: زيارة المسجد.. تجربة روحانية لا تُنسى يُعد مسجد أبو حربية وجهة مثالية لعشاق التاريخ والعمارة الإسلامية، حيث يمكن للزائر الاستمتاع بجولة داخل المسجد، والتعرف على تفاصيله المعمارية الفريدة، والاستمتاع بأجواء حي الدرب الأحمر الذي يحتضن العديد من المساجد والمدارس الأثرية الأخرى. يمثل مسجد قجماس الإسحاقي (أبو حربية) تحفة معمارية نادرة تعكس روعة فنون المماليك الجراكسة، ويُعد شاهدًا حيًا على عبقرية العمارة الإسلامية التي أبدعها المصريون عبر العصور. ورغم مرور أكثر من خمسة قرون على بنائه، لا يزال هذا المسجد محتفظًا بسحره وأصالته، ليبقى جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة القاهرة الإسلامية. زيارة هذا المسجد ليست مجرد جولة بين جدرانه، بل هي رحلة عبر الزمن إلى عصر ازدهرت فيه العمارة، وارتبطت فيه المساجد ليس فقط بالعبادة، بل أيضًا بالعلم والثقافة والمجتمع، ليظل مسجد أبو حربية شاهدًا على عظمة الماضي وإرثًا خالدًا للأجيال القادمة.