د. منير الحايك قليلة هى الأعمال الروائية التى ينهيها القارئ وهو فى حيرة بين رأيين، القصة عادية، والعلاقات عادية، ولكن المتعة حاضرة بقوة، والسرد كان جزلًا وسلسًا، واللغة سهلة وسليمة وجاذبة فى آن. فلماذا اختارت الكاتبة شخصيات رمزيتها عادية وقد أقول مبتذلة، وهى العارفة والخبيرة والقادرة على الخلق بما هو أعمق وأكثر تعقيدًا، تعود لتتذكر هل كانت أيّة شخصية من الشخصيات إشكاليّةً؟ هل كانت الأحداث والعلاقات قوية ومتشعبة وأنا لم أتنبه؟ أتحدث هنا عن رواية صيف سويسري» (منشورات تكون ودار الرافدين 2024) للروائية العراقية إنعام كجه جي. بالنسبة إليّ شخصيًّا، عندما أقرأ نصًّا روائيًّا أبحث عن الجديد، لأنّ الروائى الحقيقى والخبير سيعرف كيف يصوغ حكايته وينشئ العلاقات ويدعّم أسلوبه، ولكن الجدّة إن لم تحضر، سيكون النصّ رقمًا مضافًا إلى نتاج الكاتب، يُذكر على أغلفة كتبه الخلفية فيما بعد، فهل كانت «صيف سويسري» رواية للتسلية كتبتها الروائية صاحبة «النبيذة» و«الحفيدة الأمريكية»، حيث القضايا والتشعبات وهموم البلاد والهوية والخوض فى تشابكات النفس البشرية، قبل أن تقدّم عملًا ثقيلًا آخر، قِصَر النصّ قد يوحى بذلك، وفكرة اجتماع العراقيين الأربعة فى سويسرا دعمت هذا الاعتقاد ورافقنى منذ بداية النص، إلى ما قبل نهايتها، حتى انتبهت إلى الجديد، وإلى ما سأسمح لنفسى بقوله، «حرفنة» الكاتبة إن لم أقل عبقريتها. هى قصة حاتم مدمن القومية والعروبة، وغزوان محبّ آل البيت، وبشيرة اليسارية، ودلاله المبشّرة من شهود يهوه، ومعهم بلاسم الطبيب، وسندس ابنة بشيرة، يجتمعون بوصفهم «فئران تجارب» فى بازل السويسرية ذات صيف، لتقوم شركة إنتاج أدوية بتجربة دواء جديد عليهم يخلّصهم من مبادئهم وانتماءاتهم وأحقادهم وتاريخم... فهل ينجح الاختبار؟ يتنقل سرد الحكاية بين لسان حاتم والراوى العليم، وتنتهى مع سندس التى تسرد لمرة واحدة فقط وتنتهى معها الرواية، ولعل إعطاء شخصية حاتم الدور الأبرز فى السرد، قد يظنه المتلقى لكونه رجل الأمن الوحيد بينهم، والذى قام فى حياته بما يندم عليه عندما كبر. أما الراوى العليم، فقد كان يسرد عن حاتم وعن الجميع، وعدم إفساح الرواية المجال لجميع الشخصيات ليكونوا رواةً، أعتقد أن الأمر ارتبط بتركيز النصّ على العلاقة التى ربطت، وانقطعت، وعادت وربطت حاتم ببشيرة، هذه العلاقة التى تمثّل علاقات أبناء بلادنا التى تحكمها الصراعات دائمًا، ولكنها تعود وتجد المسارات التى تعيد تشكيلها من جديد، ولعلّ الجديد الذى كنت أبحث عنه ظهر عندما قالت سندس قبل نهاية الرواية «عمى حاتم»، هنا بالنسبة إليّ كانت المفاجأة! اجتماع الأربعة على اختلاف انتماءاتهم العراقية أمر عاديّ، ما عدا دلاله التى من شهود يهوه، فهذه الفئة من أبناء البلاد لم تبرزها نصوص روائية كثيرة، وهنا لم تعطِ الرواية مساحة كبيرة لها، ولعل السبب يرجع إلى حضور هذه الفئة فى المجتمع، فجاء حضورها مناسبًا، والأمر نفسه بالنسبة إلى غزوان، فهو لم يحضر كما حضر حاتم ومن بعده بشيرة، ولكن الأمر كان على عكس سبب دلاله، فغزوان فى نهاية النصّ سنراه واحدًا من حكام البلاد الجدد، ولأنّ حضوره أصبح طاغيًا فى الواقع، منحته الرواية مساحة أقل. وهنا أردّ الأمر إلى تركيز الكاتبة على العلاقة التى ستحييها، وليس على كلّ الشخصيات، والرواية، وعلى الرغم من أنها أوهمتنا بأن الشخصيات الأربعة لها الحضور نفسه فى النص كما فى المجتمع، إلا أننا سنلاحظ أنّ للنص بطلا، هو حاتم، وتكتمل بطولته مع بشيرة. أما الحرفنة والعبقرية فتكمن فى فشل التجربة، تجربة الدواء الذى اتفق الأربعة على عدم تناوله ورموا الحبوب فى النهر قبل مغادرتهم، هم كانوا مقتنعين بأنهم انتصروا على التجربة، وأنّ الأيديولوجيا والتحزّب والاختلاف صفة لن يستطيع أحد محوها مهما حاول العلم والطب والتجارب وحروب الإلغاء والموت محوها، ستظلّ لأنها صفة مصاحبة وملازمة للعراقى، أو فلنقل للعربى أو المشرقى، ولكن ما قالته الرواية كان عميقًا وساحرًا وسهلًا، بسهولة ما حصل معهم، لقد اجتمع هؤلاء الأربعة لينسف كل منهم عقائده وتاريخه وانتماءه، ولكن «السحر/الحلم» هو الذى حصل، وأرادته الكاتبة، المتفائلة، أن يعمّ وأن ينتشر، فحاتم وبشيرة، على الرغم من قصة اعتقالها ونجاتها فى الماضى ودوره فيها، فقد عاد وجمعهما الحبّ، والشيخ المعمم جمعه ما يمكن أن نقول إنه علاقة صداقة ومودة مع دلاله التى من شهود يهوه، دلاله التى غنّت وأطربت الجميع على الرغم من عدم فهمهم لكلامها الآشورى، هذا الحلم هو غاية الرواية، أن تقول لأبناء البلاد اختلفوا قدر ما تشاؤون، ليس أجمل من هذا الاختلاف، ولكن يلزمنا أمر بسيط واحد، أن نجتمع، فى مكان هادئ ووقت مناسب، كالصيف فى سويسرا، وبلادنا، إن أردنا، فيها ما يوازى ذلك الجمال والهدوء، لقد قبلنا بعضنا عندما ابتعدنا عن المكان، ولكن يمكننا أن نقبل بعضنا عندما نعود إليه أيضًا. هى رواية عن البلاد وأبناء البلاد، وهى رواية عن الطيبة والجمال والعراقة والثقافة التى تتمتع بها أرواحهم وأفئدتهم وعقائدهم حتى، لا ينقصهم سوى أن يفهموا الاختلاف وعظمته وقوته. وأنهى مع مقطع للسيّاب الذى يعلن فى أحدى القصائد الحلولية مع بلاده، «وأنا بويب أذوب فى فرحى وأرقد فى قراري»، بويب الذى، وإن كان يشبه الساقية، هو نهر يوازى الراين، ولعلّ جيكور، وإن كانت قرية ريفية بعيدة، توازى سويسرا بسحرها، إن أراد أبناؤها أن توازيها، ولعل ذلك يحصل عندما يفهمون انتماءهم للبلاد، وللبلاد فقط.