فى الثالث من فبراير الحالى يمر 50 عاماً على رحيل أم كلثوم، وفى هذه المناسبة أعاد «كتاب اليوم»، الذى يصدر عن مؤسسة أخبار اليوم برئاسة تحرير ياسر عبد الحافظ، إصدار كتاب أم كلثوم التى لا يعرفها أحد»، للكاتب الكبير الراحل محمود عوض، فى طبعة خامسة مستندة إلى الطبعة الرابعة التى أضاف إليها «عوض»؛ فصلاً ختامياً بعد رحيل أم كلثوم، بالإضافة إلى مقدمة حكى فيها كواليس كتابته مذكرات أم كلثوم، وحققت الطبعات الأربعة السابقة أرقاماً قياسية فى التوزيع والانتشار، وقد وصف محمود عوض هذا الكتاب بأنه الحب الأول؛ «كتاب أول لمؤلف شاب عن أم كلثوم النجمة التى وصلت إلى القمة فى زمانها، وما زالت بعد رحيلها بنصف قرن» تبدأ قصة هذا الكتاب؛ كما حكى «عوض»، فى عام 1969، عندما قررت مؤسسة أخبار اليوم إصدار كتاب عن أم كلثوم ضمن سلسلة «كتاب اليوم»، وعندما جرى التشاور مع أم كلثوم اشترطت أن يكون الكاتب الكبير محمود عوض، هو من يكتب هذا الكتاب، وقد كان وقتها شاباً صغيراً ولم يسبق له إصدار أى كتاب، وبالفعل بدأ «عوض» فى الجلوس مع أم كلثوم للاتفاق على محتوى الكتاب، وكانت أول الصعوبات التى واجهها هى التحفظ الشديد من أم كلثوم فى رواية تفاصيل ذكرياتها الخاصة، «أم كلثوم كانت عنيدة فى إصرارها على عدم الحديث عن حياتها الخاصة وتتمسك بفكرة أن شخصيتها كمطربة هى كل ما يعنى القارئ والمستمع!»، وبعد محاولات متكررة امتدت طويلاً، بدأت تتكلم؛ لكنها لم تتكلم كثيراً، فخرج هذا الكتاب الذى يمكننا تقسيمه إلى نصفين: «نصفه مذكرات منها، ونصف مذكرات عنها»، وقد قدم الكتاب جوانب مختلفة من شخصية أم كلثوم من زوايا عديدة، منها: عندما تغنى، وكيف تختار أغانيها وألحانها، أم كلثوم على المسرح، فى البيت، مع المستمع مع الشاعر مع الملحن، أم كلثوم كشخصية وطنية، وكفرد عادى. «القاهرة 26» فى البداية يقدم «عوض» تحت عنوان « القاهرة 26»، وصفاً بانورامياً كبيراً لمظاهر الحياة فى مصر بجوانبها المختلفة، فمن قراءة لأبرز عناوين صحف ذلك الوقت والتى تعكس الحالة العامة الموجودة على أرض الواقع، ينتقل إلى استعراض الحالة الفنية فى مصر وتعامل الناس مع الغناء فى المناسبات المختلفة والأفراح والتى كانت تنقسم إلى قسمين: أفراح للأغنياء وأفراح للفقراء، وكانت منيرة المهدية هى سيدة الغناء فى مصر منذ سنوات طويلة، وإلى جانبها توجد السيدة نعيمة المصرية، والسيدة توحيدة، والسيدة فتحية، والآنسة أم كلثوم. وفى هذا العام 1926 قررت أم كلثوم أن تستقر فى القاهرة، فماذا ستفعل؟ من مذكرات أم كلثوم احتوى هذا الجزء الذى يحمل حكايات أم كلثوم عن حياتها، وجاءت فى فصلين تحت عنوان «من مذكرات أم كلثوم»، الأول: بعنوان «صفعنى أبى ليرضى الجمهور .. !»، والثانى: بعنوان «أمى وأبى والشيخ أبو العلا». فى الأول تحكى أم كلثوم، عن بداياتها فى القاهرة؛ «كانت القاهرة عندما بدأنا نستقر فيها سنة 1926 كالمريخ، كل شىء فيها نكتشفه لأول مرة، كل شىء فيها مختلف عما رأيناه من قبل، البيوت مختلفة، الشوارع مختلفة، السهرات مختلفة، الناس مختلفة، والجمهور مختلف»، وتؤكد أن هناك فارقا كبيرا فى العمل بين القاهرة والريف، ففى الريف كان صاحب الفرح يأتى إلينا مباشرة للاتفاق على الغناء، أما فى القاهرة لا بد من وجود متعهد للحفلات، هو الذى يتفق مع الجمهور من ناحية ومع المطرب من ناحية أخرى، ويتولى تجهيز مكان الغناء والدعاية له بين الجمهور، وهنا تحكى أم كلثوم قصة أول صفعة من أبيها؛ وكانت أمام الجمهور، ففى إحدى المرات كانت تغنى الأغانى التى تعودت أن تغنيها من القصائد والمدائح النبوية فى كازينو «البوسفور» بميدان باب الحديد، إلا أن أفرادا من الجمهور لم تعجبهم هذه الأغانى وبدأوا فى مطالبتها بأن تغنى لهم أغانى من السائدة فى تلك الفترة والتى كانت أم كلثوم تعتبرها أغانى خليعة بل فى منتهى الخلاعة، ورفضت هى أن تستجيب لهم، فبدأ أفراد من الجمهور فى الهجوم على المسرح يريدون إغلاق الستار، فثارت أم كلثوم وشتمتهم، فما كان من أبيها إلا أن صفعها أمامهم، وبكت كثيراً فى هذه الليلة، لكن بعدها أدركت أنه على حق، فقد فعل ذلك لكى يهدئ من ثورة هؤلاء بعدما رأى الشر فى عيونهم وهم سكارى، وخشى أن يحدث لها مكروه، وأضافت؛ «أراد أن يلقننى درساً فى الأدب، فمهما كانت الظروف لا يجوز لى أن أشتم واحدا من الجمهور، لا يجوز أن أتفوه بلفظ نابى واحد، حتى ولو كان معى الحق فى ذلك»، بعدها بدأ حظها يتحول شيئاً فشيئاً، وبدأت تجنى ثمار الشقاء والتعب الذى تحملته فى الريف، فقد حققت توزيع أسطوناتها أرقاماً كبيرة، وكانت المنافسة الغنائية فى سنة 1926 قد تركزت بين منيرة المهدية، وفتحية أحمد، وأم كلثوم، وتستمر أم كلثوم فى الحكى عن الصعوبات التى واجهتها وكيف تعاملت معها وتقول إنها أصبحت تعتبر المشاكل ليست صعوبات وإنما تحديات، ليست أعذاراً عن الكسل، وإنما مبررات للعمل، وتتطرق إلى أول مقال صحفى فى جريدة «السياسة»، كتبه صاحبه عنها قبل أن يراها، وظلت تعتز به طوال حياتها الفنية وتشعر نحو كاتبه الشيخ مصطفى عبد الرازق بوفاء بالغ، وبعدها بدأت الانطلاقة نحو الصدارة عندما سجلت أغنية «إن كنت أسامح وأنسى الأسية»، التى اشترى الجمهور منها نصف مليون نسخة. «أمى وأبى والشيخ أبو العلا» اقرأ أيضًا | الشوربجى: «الهيئة» تعمل على تطوير المشروعات الاستثمارية للصحف القومية فى الفصل الثانى من مذكرات أم كلثوم الذى جاء تحت عنوان «أمى وأبى والشيخ أبو العلا»، نقرأ فيه ما حكته أم كلثوم عن علاقتها بالقريبين منها، وبدأت بأمها؛ « لم تكن تعرف القراءة والكتابة، ولكنها علمتنى التواضع والصدق والإيمان بالله»، وتتذكر هنا طفولتها، «إن طفولتى لم تختلف عن طفولة الكثيرين من أبناء بلدى، عندما أتذكر طفولتى تقفز إلى ذهنى أشياء كثيرة: البرد، المطر، الفقر، الطرحة السوداء، الشاى التقيل، الجبن القريش، الثروة التى كانت قرشاً، العظام التى كانت لحماً، الركوبة التى كانت حماراً، الحنان الذى كان أبى، الرحمة التى كانت أمى»، ومع تقدم سنوات طفولتها تركزت حياتها فى محاولة الإجابة على ثلاثة أسئلة: هل أجد طعاماً، هل أجد مأوىً، هل أغنى؟، ومع كل نجاح حققته كانت تتذكر شخصاً واحداً هو صاحب الفضل فيه، هذا الشخص هو أبيها؛ الشيخ إبراهيم البلتاجى، الذى تقول عنه إنها تعلمت منه أشياء كثيرة غير الغناء، فقد كان يتمسك دائماً بأداء واجبه بضمير يقظ طوال الوقت، حتى إنه أجبرها فى إحدى المرات أن تغنى أربع ساعات دون أن يسمعها أحد غير مئات الكراسى الخالية من أى فرد، لأنه اتفق مع أحد أصحاب الأفراح وتقاضى المقابل المادى، وعند الوصول إلى مكان الفرح لم يجد أى شخص بسبب الجو شديد البرودة فى تلك الليلة؛ ورفض صاحب الفرح استرداد المبلغ من أبيها قائلاً له: «يا سيدى كأنها زكاة!»، وتركه وانصرف، فكان رد أبيها: لازم تغنى!، فقالت أم كلثوم: أغنى لمين؟!، وظلت تغنى أربع ساعات متصلة دون أن يسمعها أحد!. وتؤكد أم كلثوم: «إن أمى وأبى هما صاحبا الفضل الأول علىّ فى حياتى أما الثالث، فهو الشيخ أبو العلا، الذى يكفينى أن أقول إنه جعلنى لأول مرة أفهم معنى ما أغنيه»؛ فقد كان يدربها على الغناء طوال الليل لكنه توفى مبكراً فى يناير 1927، «لقد كان الشيخ أبو العلا والداً ثانياً لى ولن يقل وفائى وامتنانى له عن وفائى لأمى وأبى». عند هذا الحد؛ يقول الكاتب الكبير محمود عوض، انتهت مذكرات أم كلثوم، ومن هنا تبدأ مذكرات أخرى «عن» أم كلثوم، مذكرات يكتبها هو عنها. مذكرات عن أم كلثوم فى الجزء الثانى من المذكرات التى كتبها الكاتب الكبير عن أم كلثوم تحت عنوان: «أم كلثوم التى يعرفها الناس»، يحكى فيه عن علاقة أم كلثوم بجمهورها فى حفلاتها التى كانت تقيمها دائما يوم الخميس، وبمرور الزمن أصبح لديها كومة من أيام الخميس تشكل رصيدها ويعرفها الناس من خلالها، وكانت قبل أن تغنى بلحظات تتطلع إلى الجمهور من خلف الستار فى نظرات سريعة فاحصة قائلة: «مساء الخير أيها الجمهور»، ويضيف المؤلف أن سحر أم كلثوم كان يتركز أولاً فى شخصيتها وثانياً صوتها؛ الذى أكدته الحقيقة العلمية، فصوتها أبعاده من 60 إلى 16 ألف ذبذبة فى الثانية، بينما أقوى صوت يليها يصل إلى 10 آلاف ذبذبة فى الثانية. أم كلثوم فى البيت تحت هذا العنوان يحكى المؤلف قصة زواج أم كلثوم من الدكتور حسن الحفناوى أحد أبرز أطباء الأمراض الجلدية وقد كان من «سميعة» أم كلثوم، وكانت هى تتردد عليه فى سنة 1954 للعلاج، وتطورت العلاقة العادية بين طبيب ومريضة إلى اتفاق عاطفى على الزواج الذى تم بعد عودة أم كلثوم من رحلتها إلى أمريكا للعلاج فى سنة 1955، وقرر الطرفان بإصرار يصل حد التزمت على ألا تختلط حياتهما العامة بحياتهما الخاصة، ويستعرض أيضاً هذا الفصل من الكتاب تفاصيل من حياة أم كلثوم وعلاقاتها مع المحيطين بها، وعاداتها وطقوسها اليومية الخاصة، وماذا تفعل فى ليلة الغناء، ومحافظتها على زيارة مسجد الحسين ومسجد السيدة زينب قبل أن تغنى، وحرصها على قراءة القرآن الكريم، وحرصها أيضاً على الثقافة، والقراءة الكثيرة خاصة فى الشعر، وتطرق أيضاً إلى ملابسها وكيف تختار فساتينها، وعلاقتها بأفراد أسرتها، وحبها الشديد للأطفال، رغم أن القدر حرمها من أن تكون أماً. أحمد رامى والسنباطى وعبد الوهاب فى هذا الفصل الذى يحمل عنوان «أم كلثوم بين .. أحمد رامى والسنباطى وعبد الوهاب» يحكى الكاتب الكبير محمود عوض، العلاقة الفنية التى جمعت أم كلثوم بأساطين الغناء فى ذلك الوقت الشاعر أحمد رامى، والموسيقار رياض السنباطى؛ الذى كانت تفضله أم كلثوم فى تلحين القصائد الصعبة، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، ويحكى قصة أول لقاء بينهما فى 1927، قبل 37 سنة من غناء «أنت عمرى» سنة 1964، بعدما طلب منهما الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى احتفالات يوليو 1963 أن يلتقيا معاً فى أغنية واحدة، فكانت «أنت عمرى»، ويحكى أيضا قصة لقائها بالشعراء أحمد رامى، أحمد شوقى، إبراهيم ناجى، أحمد شفيق كامل، بيرم التونسى، مأمون الشناوى، مرسى جميل عزيز وعبد الوهاب محمد، وجورج قرداق، وغيرهم كثيرون، وأيضاً يتكلم عن علاقتها بالملحنين زكريا أحمد، ومحمد القصبجى، وبليغ حمدى، ومحمد الموجى، وكمال الطويل، «فى كل لقاء لأم كلثوم مع هؤلاء الشعراء والملحنين كان عقلها يتحول إلى معمل، إلى جهاز يقارن، يختار، يعدل، يضيف، يحذف، يقرر.. ». أم كلثوم بين الفن والسياسة هنا يحكى المؤلف قصة الحب والعشق المتبادل بين أم كلثوم ومصر، «لقد أعطت بلدنا حبها لأم كلثوم على بياض.. بلا تحفظات، وأم كلثوم أحبت بلدها حباً بغير حدود»، ونتعرف أيضاً على علاقتها بالضباط الأحرار وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، تلك العلاقة التى بدأت منذ حصار الفالوجة فى 1948 واستمرت حتى رحيل عبد الناصر، ويكشف لنا عن خفايا كثيرة من المجهود الضخم الذى بذلته أم كلثوم بعد نكسة يونيو 1967، وكيف دارت فى سنتين حول الكرة الأرضية مرتين، تغنى فى العديد من الدول وعندما تعود إلى مصر تتبرع بكل ما جمعته يدها حصيلة غنائها، والتى وصلت إلى مليونين من الجنيهات قدمتها إلى بلدها، تبرع اختيارى، مساهمة من الفنانة لبلدها. إلى هنا ينتهى الكتاب كما صدر أول مرة فى حياة أم كلثوم، وبعد رحيلها بسنوات طلبت مؤسسة أخبار اليوم من الكاتب الكبير محمود عوض إصدار الطبعة الرابعة من المذكرات، فقام الراحل الكبير بإضافة مقدمة خاصة، وفصل أخير، هو ما سنستعرضه فى السطور التالية.. «الدنيا .. التى كانت أم كلثوم» تحت هذا العنوان يحكى لنا المؤلف، بداية النهاية لرحلة كوكب الشرق، والتى بدأ العد التنازلى لها فى يوم الثلاثاء 17 مايو 1972؛ فى مدينة لندن بفندق «هيلتون لندن» عندما سقطت أم كلثوم مغشياً عليها، بعد عودتها مباشرة من المستشفى التى كانت تجرى فيه بعض التحاليل والفحوصات، وبعد أن استردت وعيها وعودتها للحياة، كانت تلك هى البداية فى صراعها مع الحياة والمرض، وينتقل المؤلف إلى قصة تسجيل أم كلثوم لأغنية «حكم علينا الهوا» آخر أغانيها فى استديو 47 بالتليفزيون، تلحين بليغ حمدى، وقد ظهرت علامات التعب والإرهاق الشديد عليها، فطلبت من بليغ أن تستكمل التسجيل فى اليوم التالى. وعقب عودة أم كلثوم إلى منزلها فى الزمالك، حضر أطباء الكونسلتو لإجراء الكشف والتحاليل وكان القرار بضرورة نقلها إلى مستشفى القوات المسلحة لإجراء فحوصات على الكلى، وقتها حالتها المعنوية كانت مرتفعة للغاية، وانصرف الجميع على أن يتم تجهيز غرفة بالمستشفى لاستقبالها بعد يومين، وفى الثالثة فجراً، ومن غرفة أم كلثوم انشق الصمت فجأة عن صرخة فزع، وفزعت سمية؛ ابنة أختها والملازمة لها دائماً، مرددة: إيه يا ثومة؟، إيه يا حبيبتى، مالك يا روحى، أنت صحيتى، .. قالت أم كلثوم: دماغى .. دماغى؛ عندى صداع جامد يا سعدية، أحاطت سعدية رأس أم كلثوم ووجهها بيديها، فجأة أحست بيديها مبلولتين، إنها دموع أم كلثوم أول دموع من أم كلثوم طلبت أم كلثوم حبات الأسبرين؛ فأعطتها سعدية قرصين وكوب مياه، ثم أعادت أم كلثوم رأسها إلى الوسادة ولم تتحرك. وصلت سيارة الإسعاف وفى العاشرة إلا ربع من صباح الخميس 30 يناير 1975، جرى نقل أم كلثوم إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، إلى حجرة الإنعاش، حجرة 334، كانت لحظة لا تنسى مطلقاً، «قبل تلك اللحظة كانت أم كلثوم فى رعاية الأطباء، من الآن فصاعداً .. أم كلثوم فى رعاية الله». ففى 3 فبراير 1975، ماتت أم كلثوم.