يعتبر الحزن على المتوفى ومظاهر العزاء كان جزءًا لا يتجزأ من الثقافات الإنسانية على مر العصور، حيث تُعبر المجتمعات عن آلامها بطرق مختلفة تتماشى مع تقاليدها ومعتقداتها. وفي مصر القديمة، تكشف لنا اللوحات الجدارية عن مشاهد تفصيلية لهذه العادات التي امتزجت بالمعتقدات الدينية والاجتماعية، كما أكده الباحث الأثري الدكتور حسين دقيل، المتخصص في الآثار اليونانية الرومانية. من بين أبرز الأمثلة، لوحة جدارية فريدة تعود إلى 3370 عامًا، في مقبرة الوزير "رع موزا" بالقرنة غرب الأقصر، التي تروي مشهدًا مؤثرًا لطقوس النحيب والعزاء، مجسدة مشاعر الفقد بأسلوب فني دقيق ينقل الأجواء الحزينة بواقعية مدهشة. عويل النساء.. بين الحزن والتقاليد - تصوير العزاء على جدران المقابر: تُظهر اللوحة الجدارية من مقبرة الوزير "رع موزا" مشهدًا حيويًا للنائحات وهن يعبرن عن أحزانهن العميقة على الفقيد. يبدو الحزن جليًا في تفاصيلهن الدقيقة؛ فمنهن من أسدلن شعورهن في تعبير واضح عن الأسى، وأخريات رفعن أيديهن بالدعاء للمعبود طلبًا للرحمة للمتوفى. - طقوس النحيب في مصر القديمة من المثير للاهتمام أن طقوس العزاء عند المصريين القدماء لم تكن مجرد مظاهر للحزن، بل كانت متجذرة في معتقداتهم الدينية المرتبطة بالآخرة. اعتقد المصريون أن مظاهر الحزن الصاخبة، مثل البكاء والعويل، تُساعد المتوفى في رحلته إلى العالم الآخر. - أشد النساء حزنًا تُبرز اللوحة امرأة حزينة وصلت قمة الانهيار العاطفي، حيث شقت جيبها بشكل كشف عن جزء من جسدها، وهي تصرخ بألم شديد. بجانبها، تُظهر اللوحة امرأة أصغر سنًا، ربما تكون ابنتها، تحاول تهدئتها وتمسك بثوبها، وكأنها تقول لها: "كفاكي بكاءً فلن يعيد ذلك ميتنا إلى الحياة." رع موزا.. الوزير الذي خلدت ذكراه جدران مقبرته - مكانة الوزير رع موزا رع موزا هو واحد من أبرز الشخصيات في عهد الأسرة الثامنة عشرة، حيث خدم كوزير في عهد الملك "أمنحتب الثالث" وابنه الملك "أخناتون". بالإضافة إلى كونه حاكمًا على طيبة، لعب رع موزا دورًا سياسيًا ودينيًا هامًا في فترة شهدت تغيرات كبيرة، خاصة مع بداية عهد أخناتون. - انتقاله إلى تل العمارنة رغم أن رع موزا كان مقيمًا في طيبة، إلا أنه انتقل إلى تل العمارنة عندما أعلن أخناتون عن عقيدته الدينية الجديدة. هذا التحول الديني والسياسي ربما أثّر على حياة رع موزا، إلا أن مقبرته في طيبة ظلت شاهدة على عظمته وأهميته في التاريخ المصري القديم. رمزية المشهد في السياق الديني والاجتماعي - العزاء بين الطقوس الدينية والاجتماعية ارتبطت مظاهر الحزن في مصر القديمة بالمعتقدات التي تؤكد أهمية الحفاظ على توازن الروح بعد الموت. كان الحزن الجماعي والنحيب وسيلة لإظهار مدى حب الأسرة للمتوفى، وضمان أن تحظى روحه بالدعم اللازم في رحلته إلى الحياة الآخرة. - دور النساء في الطقوس الجنائزية لطالما كان للنساء دور بارز في طقوس العزاء المصرية. يظهرن في اللوحات الجدارية وهن يعبرن عن مشاعرهن بطرق متباينة، من البكاء والعويل إلى الدعاء والرجاء، مما يعكس مدى أهمية دورهن في تخليد ذكرى المتوفى. لوحة فنية تتحدث عن العواطف - الدقة في تصوير المشاعر تعكس اللوحة الجدارية في مقبرة الوزير رع موزا براعة الفنان المصري القديم في تجسيد المشاعر الإنسانية. تظهر تفاصيل الأيدي المرتفعة، وملامح الوجه الحزينة، وحركات الجسد المتهالكة، كل ذلك بأسلوب فني يُبرز القدرة على نقل مشاعر الحزن بطريقة واقعية. - رسالة خالدة عبر الزمن تُعد هذه اللوحة شهادة حية على الطقوس التي كانت تمارس قبل آلاف السنين. هي ليست مجرد لوحة جنائزية، بل وثيقة تاريخية تُظهر كيف عاش المصري القديم مشاعر الفقد وأهمية الطقوس في توديع أحبائهم. مقبرة رع موزا.. كنز تاريخي تقع مقبرة رع موزا في منطقة القرنة غرب الأقصر، وتحمل الرقم 55 ضمن مقابر النبلاء. تتميز المقبرة بزخارفها البديعة التي تصور مشاهد من حياة رع موزا وطقوس جنازته. تُظهر النقوش الجدارية مدى تقدم الفنون في الأسرة الثامنة عشرة، وحرص المصريين على تخليد ذكرياتهم عبر الزمان. الأهمية الأثرية للمقبرة تُعتبر مقبرة رع موزا واحدة من أبرز المقابر التي تُظهر تفاصيل الحياة السياسية والدينية والاجتماعية في عصر الأسرة الثامنة عشرة. تمثل النقوش الموجودة داخلها مصدرًا قيمًا لفهم الطقوس الجنائزية ودورها في الثقافة المصرية القديمة. اقرأ أيضا | حكاية أثر| رسم جداري فريد من المقبرة رقم 100.. أقدم لوحات مصرية ملونة