أبصرت سيدة الغناء العربى أم كلثوم النور فى 31 ديسمبر من عام 1898 بقرية طماى الزهايرة بمديرية الدقهلية فى أسرة متوسطة الحال، فتاة ريفية كانت ترتدى البالطو والعقال مثل الرجال عندما بدأت تنشد التواشيح والأدعية فى الأفراح والموالد والسهرات التى تُدعى إليها فى بيوتات الأثرياء والعمد بالقرى والمشايخ قبل أن تأتى للقاهرة التى صنعت مجدها فيها بصوتها المعجزة الذى خصها به الله دون غيرها من الناس، فتحولت لمعجزة غنائية لن تتكرر. «الأخبار» التى ساهمت فيها أم كلثوم ب 60 ألف جنيه باعتراف الكاتب الكبير مصطفى أمين تضيء 126 شمعة لعاشقة مصر بالفعل وليس بالكلام.. قبل أن تحل ذكرى ميلادها فى ليلة رأس السنة التى نودع بها 2024 فى 31 ديسمبر الجارى، وما دمنا قد عرجنا على اسم الكاتب الكبير مصطفى أمين فهو أكثر من عرف أم كلثوم عن قرب، وأكثر من تعامل معها وتعاملت معه، وبعيداً عن قصة زواجهما العرفى أو السرى الذى أكدته مصادر موثوقة كثيرة، بينما نفاه مصطفى أمين، ونفته ابنته السيدة صفية أيضاً، بعيداً عن هذه القصة محل الجدل الذى لن ينتهى لعدم وجود الأدلة الثبوتية عليه، فما يعنينا هنا أن مصطفى أمين كتب - من ضمن ما كتب عن أم كلثوم - مقالاً مطولاً فى كتابه «مسائل شخصية» يقول فيه: «عرف الناس أم كلثوم، وأنا عرفت أم كلثوم الأخرى، عرفوا الأسطورة وعرفت الإنسانة، عرفوها بخيلة وعرفتها كريمة، عرفوها فوق المسرح والأضواء مسلطة عليها، وصوتها يملأ الدنيا متعة وهناء، وعرفتها فى غرفتها الصغيرة فى الطابق العلوى من بيتها منزوية فوق كنبة صغيرة تبكى فى صمت»، ويعرج بنا فى ذات المقال على شائعة بخلها التى أطلقها أحد الموسيقيين بفرقتها قائلاً: «أم كلثوم كانت فرحة وسعيدة بانتشار قصة بخلها، حتى إن بعض الناس أطلق عليها «أم إسرائيل لا أم كلثوم». وكانت إذا سمعت عن فنانة مريضة أسرعت إليها ونقلتها إلى المستشفى ودفعت مصاريف علاجها وحذرتها أن تفتح فمها وتقول لإنسان ما فعلت، وأنذرتها بأنها إذا تكلمت فإنها ستقاطعها إلى الأبد، وسكتت من تعلم وتكلمت من لم تعلم، وكانت أم كلثوم تقول: «إن الذين يتحدثون عن بخلى يدافعون عنى، يبنون حولى سورًا عاليًا يصد النصابين والأفاقين والطامعين»، والمقال طويل لا تتحمله مساحة هذه الصفحة، وننتقل منه إلى ما ورد على لسان مصطفى أمين فى حواره مع مجلة «الشبكة» اللبنانية بشأن واقعة فكاهية جداً عندما زارته أم كلثوم فى مكتبه ب «أخبار اليوم» وقالت له: «يا مصطفى أنا هاعمل فيلم جديد ومحتاجه قصة»، فقال لها: «الأستاذ توفيق الحكيم فى مكتبه كلفيه يكتب لك القصة»، وكتب الحكيم القصة لكنها لم تعجب أم كلثوم لأنها لا تريد تجسيد شخصية من العصر العباسى على غرار الشخصية التى جسدتها فى فيلم «وداد»، هى تريد قصة واقعية تناسب العصر، وكررت على مصطفى أمين أن يكتب لها القصة فقال لها: «يا أم كلثوم .. أنا أكتب المقالات ولا أكتب القصص»، لكنها لم تقبل الاعتذار واستغلت زيارته لها بالمنزل وصعدت به إلى حجرة أعلى سطوح الفيلا ووضعت أمامه رزمة ورق وهى تقول: «مش هاتخرج من الأوضة دى قبل ما تخلص القصة يا مصطفى» وأغلقت عليه الباب بالمفتاح بعد خروجها ! ويقول مصطفى أمين فى حواره مع المجلة: «لم يكن أمامى مفر فبدأت فى كتابة القصة.. وكلما انتهى من كتابة صفحة مررتها لأم كلثوم من أسفل باب الغرفة، وبعد ساعة أرسلت لأم كلثوم بآخر صفحة فى القصة، قرأتها ثم فتحت الباب وهى تقول: «قصة ممتازة فعلاً». ويكمل مصطفى أمين سرد الحكاية قائلاً: «أطلقت على القصة اسم بطلتها «فاطمة»، شابة حسنة الخلق تعيش فى إحدى الحارات، يُعجب بها ابن الباشا ويتزوجها عرفياً، ويغضب أبوه ويطلب منه أن يحصل على ورقة الزواج العرفى»، فيعود ليعد فاطمة بالزواج مرة ثانية لينجح فى الحصول على الورقة، لكن فاطمة احتفظت بنسخة منها، وأنكر الطفل الذى أنجبته، ويجتمع أهل الحارة بعدها تضامناً مع ابنة حارتهم ويقررون تحريك دعوى قضائية ضد ابن الباشا». اقرأ أيضًا|«الثقافة» تحتفى بذكرى ميلاد كوكب الشرق بالأوبرا ويقول مصطفى أمين: إن أم كلثوم عرضت القصة على د. عبد الحميد بدوى القاضى بمحكمة العدل الدولية، وحافظ عفيفى رئيس بنك مصر، وبهى الدين بركات باشا، وأستاذ الجيل لطفى السيد وجميعهم استحسنوها، وطلبت منه أن يكون مستشاراً لها فى صناعة الفيلم، فرشح لها أحمد بدر خان لإخراج الفيلم، وأصرت أم كلثوم على أن يكتب مصطفى أمين الحوار لكنه اعتذر ورشح لها بديع خيرى، ويقول: إنها طلبت منه تحديد المواقف الدرامية فى القصة التى تتحول غنائياً فتذكر صديقته الأمريكية التى كانت تدير أحد البنوك وسألها ذات مرة: «هل لديك وقت غداً؟» فقالت: «نعم»، فقال: «أريد أن أراكى بعد غد، وبعد غد» واستلهم من هذا الموقف فكرة أغنية «حا اقابله بكرة وبعد بكرة»، واختارموقفاً مناسباً لأغنية «أصون كرامتى من قبل حبى».. واعترف مصطفى أمين فى حواره مع مجلة «الشبكة» بأن أم كلثوم وضعته فى السجن للانتهاء من كتابة القصة، ولم تفرج عنه إلا بعد الانتهاء منها، وقال: «هذه أول قصة أكتبها وراء القضبان داخل سجن اختيارى تحرسه كوكب الشرق»، وعُرض فيلم «فاطمة» عام 1947، وشارك فى كتابة أغانيه أحمد رامى وبيرم التونسى ولحنها زكريا أحمد ورياض السنباطى ومحمد القصبجى، وشارك فى البطولة إلى جوار أم كلثوم : أنور وجدى وسليمان نجيب وحسن فايق، وعبد الفتاح القصري، وزوزو شكيب، وشرفنطح، وفردوس محمد»، وكان فيلم «فاطمة» آخر فيلم تقدمه سيدة الغناء العربى للسينما. «الست» تشدو لعميد الأدب فى حضور الملك حسين عثر بين أوراق عميد الأدب العربى د. طه حسين بعد رحيله على خطاب بخط يد سيدة الغناء العربى أم كلثوم تقول فيه: «سيدى الأستاذ الجليل طه بك حسين حظيت بمؤلفكم «القصر المسحور» الذى تفضلتم بإهدائه اليّ فأكبرت منكم ذلك العطف الكريم.. ولا شك عندى فى أننى سأجد بين طياته غذاء يضاعف شكرى ويحفظ لكم فى نفسى أجمل الذكريات - أدامكم الله مناراً للعلم والأدب، التوقيع .. أم كلثوم إبراهيم»، لو لم يكن العميد على قناعة بقيمة وقامة أم كلثوم ما كان قد حرص على إهدائها أحد مؤلفاته، وقد كتب وتكلم عنها كثيراً فى مناسباتٍ مختلفة، وكان يقدر صوتها وشخصيتها، وأوجز رأيه فى تأثيرها قائلاً: «أسهمت أم كلثوم عندما غنّت القصيدة فى إثبات جمال العربية وطواعية موسيقاها، حتى فى أصعب الكلمات لموسيقى الغناء، كان لصوتها فضل فى انتشار الشعر العربى على ألسنة العامة والخاصة». وفى 16 فبراير عام 1955 كان العاهل الأردنى الملك حسين فى زيارة للقاهرة للتشاور مع الرئيس عبد الناصر وتعميق العلاقات، وذهب مع الرئيس ورئيس وزراء اليمن لحفل أم كلثوم بنادى الضباط، وغنت كوكب الشرق فى الوصلة الأولى أغنية « ذكريات» و«يا ظالمنى» فى الوصلة الثانية .. وفى فترة الاستراحة صعد سفير المملكة الأردنية للمسرح ليقلد أم كلثوم نيشان النهضة الأردنى من الطبقة الثالثة قائلاً: «يعلن حضرة صاحب الجلالة الملك حسين الأول ملك المملكة الأردنية الهاشمية، الإنعام على صاحبة العصمة مطربة الشرق السيدة أم كلثوم، الفنانة العظيمة بنيشان النهضة من الطبقة الثالثة تقديراً لها ولفنها»، وشكرت أم كلثوم الملك حسين قائلة: «أشكر جلالة الملك باسم بلادي، وباسم الفن فى البلاد العربية، وأرجو أن أرى الوسام الأكبر الذى نحلى به قلوبنا وصدورنا، وسام وحدة الشعوب العربية والحكومات العربية»، وبعدها غنت رائعة «قصة حبى»، وكان الملك حسين على موعدٍ ضمن برنامجه لزيارة د.طه حسين فى منزله برفقة كمال الدين حسين وزير الشئون الاجتماعية، وكان العميد قد طلب حضور أم كلثوم لتهنئتها بالنيشان، وحضرت الجلسة زوجة الدكتور طه حسين وسفير المملكة الأردنية، وطلب عميد الأدب من أم كلثوم أن تغنى شيئاً، من روائعها فأخرجت ورقة من جيبها عبارة عن مجموعة أبيات من رواية «الأيام» لطه حسين، وقامت بدندنتها بما أذهل الحضور وطلب الملك حسين د.طه حسين كتابة قصيدة لكوكب الشرق، فقالت أم كلثوم: «ياريت بس العميد بيحب ناس تانية»، وأدرك العميد ما ترمى إليه قاصدة منيرة المهدية فقال: «وأنا موافق أكتب لكى قصيدة بشرط أن تُسمعينا رائعتك «مصر تتحدث عن نفسها».. واستمرت السهرة لأكثر من ساعتين». مجلة «الاثنين والدنيا» «ثومة» تصل لمخبأ جنيهات «الحكيم» استملح المفكر الكبير توفيق الحكيم ما أطلقه الكثير عنه من صفات البخل والحرص على المليم، وقال: إن هذا يحميه من المتطفلين والمتسولين والطامعين، والوحيدة التى استطاعت الوصول إلى المخبأ الذى يخفى فيه جنيهاته التى يخرج بها للشارع هى أم كلثوم، ويروى لنا القصة الكاتب كمال الملاخ موضحاً أن أم كلثوم جاءت لمؤسسة «الأهرام» شتاء 1970 لجمع تبرعاتٍ من كبار الكتاب والأدباء والصحفيين، دخلت لتوفيق الحكيم وهى تقول: «أنا بجمع عيديات يا توفيق بك نهديها لأبناء المُهجرين فى العيد»، فرد قائلاً: «عاوزة إيه يا ست؟!». فقالت: «حتتبرع بكام يا توفيق بك ؟!»، فقال: «بس يعنى.. أصل الحكاية»، فقاطعته: «مهو أنا مش حأطلع من هنا إلا لما تطلع المحفظة»، استسلم الحكيم وقدم لها المحفظة وهو يقول: «خدى كل اللى فيها»، صُعقت أم كلثوم عندما وجدت المحفظة فارغة، وكان ثروت أباظة حاضراً فقال لها: «توفيق بك ما بيشيلش فلوس فى المحفظة»، فقالت له: «بيشيلها فين؟»، فقال: «دورى فى جراب النظارة»، فقال الحكيم: «ليه كده يا ثروت» ولم يلحق الجراب الذى أصبح فى يد أم كلثوم.. والحكيم يقول لها: «أمرى لله.. تحت فرشة الجراب ها تلاقى 2 جنيه»، رفعت أم كلثوم الفرشة فوجدت 7 جنيهات لوحت بها فى يدها وهى تقول: «ايه ده يا توفيق بك.. انت بتخبى الفلوس فى عينيك؟»، فقال بأسى: «ما هو ده المكان الوحيد اللى الحرامى ما يفكرش انى شايل فيه حاجة.. إنما المحفظة هى اللى مطمع»، واستطرد قائلاً: «انتى هاتخدى كل اللى حيلتى ولا إيه ؟ !»، ضحكت أم كلثوم وهى تقول له: «مش ها ازعلك يا توفيق بك. خد 2 جنيه وتبقى اتبرعت بخمسة»، فقال: «طب ما تاخدى 2 جنيه وتتركى لى الخمسة»، فقالت: «ما ينفعش يا توفيق بك»، فتمتم وهو يقول: «الله يسامحك يا ثروت.. كشفت المخبأ السرى!»، وخرجت أم كلثوم من «الأهرام» بعد أن جمعت تبرعات بقيمة 1240 جنيهاً. موسيقار الأجيال يصف شعوره نحو «الست» طلبوا رأيى فى أم كلثوم لأن الظروف قضت بأن نكون فى منافسة، والمصريون يحبون أن يسألوا الواحد عن منافسه ليجعلوا من هذا موضوعاً «للتريقة»، بل موضوع للضحك والفرفشة على حساب عبيد الله من أمثالى وأمثال أم كلثوم! سُئلت عن رأيى فى أم كلثوم، وما دامت الظروف قد قضت بأن نكون فى منافسة، ففى هذا كما يرى البعض «ورطة» .. ولكنى رغم ذلك سأكون عنتر بن شداد وأقول: إنه من الخطأ أن أكون والآنسة متنافسين، ولو أن التنافس جميل ومغرى، لكننا فى مصر نخلق من المنافسة أحقاداً وضغائن ومقالب بفضل التحزب لزيد أو عبيد، ومن الجائز أننى لا أكلم أم كلثوم، ومن الجائز أن أم كلثوم تلوى بوزها حين تشاهد محياى، ولكن ليس ذلك من منشأ المنافسة الفنية، بل منشؤه ما قضت به الظروف وما أراده بعض الذين يهمهم أن تكون المنافسة هى العداوة كما حدث بين عائلتى عبد الغفار وأبو المجد فى فيلم « ممنوع الحب » ! وفى الواقع أنه لا يصح ولا يُعقل أن يكون بيننا حساب للتصفية، بل يجب أصلاً أن تكون بيننا منافسة - مع حبى لها وفهمى لمعناها، ذلك لأننى والآنسة أم كلثوم يكمل كل منا الآخر، فاسمى واسمها، وجنسى وجنسها، وفنى وفنها، وصوتى وصوتها، يؤديان معاً وبالتضامن وبالاشتراك رسالة موسيقية، وأما عن شعورى الخاص نحو صوت أم كلثوم، فيكفى أن أقول: إننى بمجرد سماعه من اسطوانة أو عن طريق الإذاعة أقطع حديثى مهما كان، وأنصت له بأذنى، وروحى، ويكفى أن أقول إننى أردد فيما بينى وبين نفسى ما يهزنى من صوت أم كلثوم، فهل هذا يكفى ؟ .. طبعاً لا يكفى، فأم كلثوم ملأ اسمها وفنها أسماع العالم، كثيرون كتبوا عنها ما يملأ مجلداتٍ، أما أنا فأتكلم عن أم كلثوم الفكرة، القيمة، الخلق، الكبرياء، الاستقامة، العملاقة على المسرح، ، وهذا هو رأيى فى الآنسة أم كلثوم ورزقى على الله. محمد عبد الوهاب «روزاليوسف» - 1943 «العقاد» يصف أم كلثوم براية متوجة من الحرير عندما قلت عن أم كلثوم: إن صوتها لا يماثله صوت، فإننى أعنى فى الماضى والحاضر على السواء، ويفتح هذا الكلام سؤالاً يسبق الألسنة وهو: كيف نحكم على أصحاب الأصوات فى الماضى ونحن لم نشهده ولم نسمعه، وحضورنا فى العصور الماضية ليس وسيلتنا الوحيدة للحكم على هذه الأصوات، فمثلاً نستطيع الحكم على مبنى إذا عرفنا مبلغ علم أبنائه لفن الهندسة، ونحكم على غنائهم إذا بقيت لنا موضوعات غنائهم وأدواتهم الموسيقية. تاريخ الغناء فى مصر منذ الفتح الإسلامى إلى الفاطميين كان شيئاً مُهملاً، أما بعد ذلك فخير ما فيه تاريخ التجديد فى العهد العثمانى أواخر القرن 19 وأوائل القرن ال 20. وصوت أم كلثوم يمتاز بالحسن والنقاء، فمن الممكن أن يفضل السامع نوعاً من الأصوات على آخر، لكنه لا يستطيع أن يجد بينها حسن ونقاء كنقاء صوت أم كلثوم، وقد سمعت جميع المطربين والمطربات الذين اشتهروا فى مصر وفى الشرق، وسمعت أم كلثوم منذ نشأتها الأولى، سمعتها لأول مرة فى حديقة الأزبكية، فى صحبة من الأدباء وأذكر منهم: على أدهم الكاتب المفكر وعبد الرحمن صدقى وكيل دار الأوبرا الملكية. رأيت أم كلثوم فى الكوفية والعقال ففهمت أنها بدوية، وسمعتها تغنى الشعر والأدوار الشعبية فما شككت منذ اللحظة الأولى أنها ستنفرد بعرش الغناء فى هذا الزمان، وسمعتها بعد ذلك فى عرس، وفى مسرح البسفور، وفى رأس البر، واقتنيت الأسطوانات التى سجلتها، وعرف أصحابى أن خير نخبة موسيقية عربية اسُمعِها إياهم فى بيتى هى أسطوانة لأم كلثوم، أو أسطوانة لسيد درويش، وميزة أم كلثوم بعد كل ما سمعته من أغانيها هى أنها المطربة الموهوبة، فهى تفهم ما تعنيه وتشعر بما تغنيه. شكت أم كلثوم ألماً فى عينيها فقال الأطباء: إن بعض دوائها فى الغناء، ويتمم الله الشفاء للمطربة الموهوبة المحبوبة وتعود ليسمع محبوها الجديد. (لأغنى وأغنى وأغنى.. وأورى الخلايق فنى.. المغنى حياة الروح.. يسمعها العليل تشفيه). أم كلثوم إذن هى راية متوجة من الحرير تخفق فى ظل النعمة والنعيم. عباس محمود العقاد «المصور» - ديسمبر 1949 خلق الله الإنسان لكى يحب، وأنا أحب رؤية القمر عندما يكون هلالاً لأننى أحب كل شىء له مستقبل. حينما أغنى بقلم: الآنسة أم كلثوم غنيت وأنا طفلة صغيرة، لا أعرف من أمور الدنيا إلا ما يعرفه الأطفال، غنيت وأنا لا أشعر بما أقول، ولا أحس بحلاوة النغم فى فمي، ولا أعرف بهزة الطرب فى قلبي، وكنت إذا صفق الناس عجبت، وسألت نفسى: «لماذا يصفقون؟!» وهكذا لا أستطيع أن أقول: إننى عشقت الغناء وأنا طفلة، أو أن أدعى أننى كنت أردد القصائد والموشحات بدلاً من البكاء. لقد غنيت ل « اللقمة » لا ل «النغمة» غنيت لأعيش، لا للفن ولا لآلهة الفن الجميل، كنت أغنى فى الأفراح.. وكانت أمنيتى أن تحدث مشاجرة بين المدعوين، أو بين أصحاب الفرح، لأتفرج، وأستريح من عناء المغنى! والليلة المتعبة عندى هى التى تمر بسلام، فلا يحدث فيها ضرب، ولا يقع جري، ولا ترتفع فيها الكراسى فى الهواء، ولا تتكسر الفوانيس على رءوس المدعوين، ففى مثل تلك الليلة الهادئة كنت أضطر لأن أكرر القصيدتين الوحيدتين اللتين كانتا كل محصولى فى تلك الأيام، كنت أصعد إلى المسرح لا يهمنى شيء، ولا أبالى بشيء، ولا يخيفنى شيء، وأى شيء يخيف طفلة صغيرة لا تعى ما تفعل، ولا تفهم كلمة واحدة مما تقول. كبرت وبدأ حظى يكبر معى، وبدأت «تذوق الفن»، عند ذلك بدأت أتهيب المسرح وأرهبه وأخشاه، وأشعر كلما غنيت أننى مقبلة على امتحان رهيب، وأن المستمعين هم أولئك الممتحنون الذين لا يرحمون، ولا يقبلون عقد ملحق للراسبين، وقد يحدث أحياناً أن أذهب إلى حفلة من الحفلات، وأنا على تمام الاستعداد لها، مزاج رائق، وصحة طيبة، فلا أكاد أفتح فمى للغناء حتى أتمنى لو أخذوا منى كل ما أملك، وعتقونى لوجه الله، ولا أغني. وفى بعض الليالي، قد تكون صحتى ومزاجى ليس على ما يرام، فلا أكاد أفتح فمى حتى تترقرق دمعة فى عينى وتظل حائرة، ثم لا ألبث أن أنسى الناس وأغنى لنفسي، وقد أفتح عينى وأنظر للجمهور ولكننى لا أراه، أتصور المكان وليس فيه أحد سواى، لا أسمع أصوات التصفيق، ولا صيحات الاستحسان، فإذا كررت مقطعاً فإنما أكرره لأننى أريد ذلك، لا لأن صوتاً ارتفع يقول لي: «كمان»، فى مثل هذه اللحظات أغنى وأنا أحلم، وتصبح القطعة الغنائية قطعة من قلبي، فإذا قلت «سافر حبيبي» فإننى أتخيل أن لى حبيباً، وأنه أسلمنى للألم والعذاب، وإذا أنشدت «غنى الربيع» أحسست أن الدنيا ربيع يغنى، والأشجار تورق، والوجوه تبتسم، والنسيم يراقص الغصون على أنغام الطير، وأرى الورد نعسان حقاً، والكون يشاركنى فرحي، ثم أتلفت وأبحث عن الحبيب الذى تخيلته فلا أجده، أنظر حولى فإذا أنا وحيدة حقاً، وإذا الأزهار جفت فوق الغصون، وإذا الشمس غابت من أفق الأحلام، وإذا الأرض صحراء جرداء لا فيها زرع ولا ماء. وفى بعض الليالى أنتهى من غنائى وكأننى أنتهى من حلم، فيوقظنى تصفيق الجمهور، فأحس بالرعدة فى جسمي، وأشعر شعور النائم حين يستيقظ بعد حلم رائع ويتمنى لو أنه لم يفتح عينيه، وهناك ليلة فى عمرى لا أنساها، تختلف عن كل ليالى حياتي، ليلة أن غنيت فى النادى الأهلي، وكانت ليلة العيد، وأقبل الملك فاروق. مفاجأة.. أحسست عندئذٍ أن فى قلبى عيداً سعيداً، وأن فى قلبى موسيقى تعزف بأعذب الألحان، وأحسست فى الوقت نفسه برهبة، وخوف. وحرت ماذا أغنى فى حضرة المليك؟! ورحت أغنى.. ولم أشعر بشيء بعد ذلك، ولم أعرف أننى أجدت، ولم أعرف أننى فشلت، بعد ذلك بأيام كنت فى محطة الإذاعة، أسمع الشريط الذى سجلت عليه أغانى الحفلة، فأغمضت عينيّ، ورحت أسمع، ولم أتمالك نفسي، فوجدتنى أصيح: الله.. يا أم كلثوم!. « أخبار اليوم» - 25 نوفمبر 1944