فى تطور يعمق الأزمة السياسية التى تعصف بأوروبا، سقطت الحكومة الألمانية الأسبوع الماضى، بعد خسارة المستشار أولاف شولتس لتصويت حاسم على الثقة فى البرلمان. فقد صوت النواب بأغلبية ساحقة بلغت 394 صوتًا مقابل 207 أصوات، مع امتناع 116 نائباً عن التصويت، لحل الحكومة القائمة. اقرأ أيضًا | بوتين: روسيا لم تُهزم فى سوريا.. وإسرائيل المستفيد الأول هذا التصويت يمثل نقطة تحول فى المشهد السياسى الألمانى، إذ سيؤدى إلى إجراء رابع انتخابات مبكرة فى تاريخ البلاد منذ تأسيس الدولة الحديثة قبل 75 عاماً. ومن المقرر إجراء الانتخابات فى 23 فبراير المقبل، فى خطوة غير مسبوقة تعكس عمق الأزمة السياسية التى تعصف بأكبر اقتصاد فى أوروبا. جاء قرار حل البرلمان بعد أشهر من الخلافات المريرة داخل الائتلاف الحاكم الذى تصدع فى نوفمبر الماضى، مما حرم شولتس من الأغلبية البرلمانية اللازمة لتمرير القوانين والموازنة. يأتى انهيار الحكومة الألمانية فى توقيت بالغ الحساسية للقارة الأوروبية التى تواجه تحديات غير مسبوقة، متعددة ومتداخلة على المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية، حيث تشهد القارة أزمة قيادة غير مسبوقة مع سقوط حكومة فرنسا، شريك ألمانيا فى قيادة أوروبا، فى وقت سابق من هذا الشهر، حيث يواجه ماكرون ضغوطاً متزايدة للاستقالة، فى حين يقول إنه سيبقى فى منصبه ويحاول إصلاح الانقسامات العميقة فى حكومته بشأن موازنة عام 2025. وتزداد الأزمة تعقيداً مع تصاعد التوترات مع روسيا، حيث يصعد الرئيس فلاديمير بوتين من تهديداته باستخدام الأسلحة النووية فى ظل استمرار الحرب ضد أوكرانيا. كما تواجه أوروبا تحديات فى علاقاتها الاقتصادية مع الصين، التى تحولت إلى منافس قوى فى العديد من الصناعات الحيوية، بالإضافة إلى المخاوف من تداعيات عودة دونالد ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض. سيشهد المشهد السياسى الألمانى معركة انتخابية محتدمة فى ظل تنافس سبعة أحزاب رئيسية على مقاعد البرلمان، إذ كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، أن استطلاعات الرأى تشير إلى أن الديمقراطيين المسيحيين المحافظين فى وضع جيد للفوز بالمركز الأول، متقدمين بفارق كبير على الحزب الاشتراكى الديمقراطى بقيادة شولتس الذى لا يتجاوز تأييده 17% من نوايا التصويت. ويواجه المستشار الحالى معركة صعبة لإقناع الناخبين بمنحه فرصة أخرى، فى حين يبرز فريدريش ميرتس، زعيم الحزب الديمقراطى المسيحى، كمرشح أوفر حظاً لتولى منصب المستشار، نظراً لتقدم حزبه الكبير فى استطلاعات الرأى. كما تشير الصحيفة إلى تنامى قوة حزب البديل من أجل ألمانيا اليمينى المتطرف، الذى تراقبه أجهزة الأمن الداخلى كتهديد للدستور، حيث يحظى بنحو 18% من نوايا التصويت. وقد سجل الحزب، إلى جانب حزب يسارى متطرف جديد هو تحالف «سارة فاجنكنشت»، أفضل نتائج له على الإطلاق فى انتخابات الولاياتالشرقية فى سبتمبر الماضى. ورغم تعهد جميع الأحزاب الرئيسية برفض التحالف معه، إلا أن صعوده يعقد عملية تشكيل ائتلاف حاكم مستقر فى المستقبل. وفى ظل هذا المشهد السياسى المنقسم، من غير المرجح أن يفوز أى حزب بأغلبية مطلقة، مما قد يؤدى إلى مفاوضات معقدة لتشكيل ائتلاف أكثر استقراراً من الائتلاف الفاشل. وتشير التوقعات إلى أن حالة عدم اليقين السياسى فى ألمانيا قد تستمر لشهر أو أكثر، مع عدم تشكيل حكومة دائمة حتى يتفق الأطراف على ائتلاف، ربما فى أبريل أو مايو المقبل، مما يترك أكبر اقتصاد فى أوروبا فى حالة من الشلل السياسى فى وقت حرج للغاية. ونقلت نيويورك تايمز عن محللين اقتصاديين قولهم إن الخلافات بين الأحزاب السياسية تتركز حول كيفية إنعاش الاقتصاد وموازنة الميزانية، مع جدل حاد حول زيادة الاقتراض الحكومى أو تطبيق المزيد من تدابير التقشف. ويشهد الاقتصاد الألمانى تحديات غير مسبوقة، فهو يعانى من حالة ركود، وقد تجنب بصعوبة الدخول فى ركود رسمى هذا الخريف. ووسط تلك الاضطرابات الاقتصادية حذر البنك المركزى الألمانى «بونس باك» خلال الأسبوع الماضى من أن مستويات النمو ستبلغ 0.1 % فى عام 2025 ليدق ناقوس الخطر للاقتصاد الأكبر فى أوروبا. وقد أشار معهد إيفو أحد أكبر مراكز الدراسات الاقتصادية فى ألمانيا الى أن مؤشر مناخ الأعمال فى ألمانيا تراجع إلى 84.7 نقطة فى ديسمبر مقارنة ب 85.6 نقطة فى الشهر السابق كما أكد المعهد الاقتصادى أن الضعف فى الاقتصاد الألمانى أصبح حالة مزمنة. وأوضح التقرير، أن انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة أسهم فى زيادة حالة عدم اليقين فى وقت يكافح فيه الاقتصاد الألمانى لتحقيق بعض من التعافى. وعلى الصعيد الأمنى، تواجه ألمانيا تحديات كبيرة فى إعادة بناء قواتها المسلحة فى مواجهة روسيا المتشددة وانتقادات ترامب للناتو. ومن هنا يبرز موقف شولتس الحذر تجاه تسليح أوكرانيا، حيث أصبحت ألمانيا أكبر مانح أوروبى للأسلحة لكييف، لكنه يفضل الإشارة إلى قراره بعدم تصدير نظام صواريخ تاوروس بعيد المدى، الذى كان يمكن أن يستفز بوتين. هذا ويحذر الخبراء من خطورة الوضع الراهن على مستقبل الاتحاد الأوروبى، فى إشارة إلى ألمانياوفرنسا. فالحال فى باريس ليس أفضل منه فى برلين، حيث قام البرلمان الفرنسى منذ عدة أيام بسحب الثقة من حكومة ميشيل بارنيه بعد أشهر قليلة من تشكيلها مما دفع ماكرون إلى اختيار رئيس وزراء جديد لتشكيل الحكومة. تلك الأزمات التى تهدد أكبر دولتين أوروبيتين تأتى فى وقت تواجه فيه القارة الأوروبية تحديات جساما تستلزم اتخاذ قرارات حاسمة فيما يخص حرب أوكرانيا وطريقة التعامل مع الرئيس الأمريكى الجديد الذى سيتولى منصبه الشهر المقبل. وترى صحيفة «الجارديان» البريطانية، أنه «ليس هناك بارقة أمل أن تتوصل ألمانيا أو فرنسا لحل للأزمات السياسية الداخلية التى تعانيان منها فى القريب العاجل»، موضحة أن صعود تيار اليمين المتطرف، وما صاحبه من أزمة الثقة فى حكومتى البلدين، ينذران بأن كلاً من برلينوفرنسا سوف تحتاجان لوقت طويل لتسوية أزماتهما السياسية.