فى روايته الأحدث «منام القيلولة» يقدم الروائى والمفكر الجزائرى الكبير، أمين الزاوى، لوحة سردية دائرية عن القوة والضعف الكامنين فى الإنسان؛ عن حب الحياة والمواجهة بشدة وحزم مع رموز الخيانة فى زمن الثورة الجزائرية، عن النهوض المستمر بعد كل انكسار لمقاومة الخيانات؛ وتحول المعاناة إلى طاقة أسطورية خلاقة تنتصر على الخراب الذى يهدد ويهاجم الإنسان والبلاد. عن «منام القيلولة»؛ الصادرة عن دار العين للنشر، يقول أمين الزاوى: جميع سلوكات الشخوص فى الرواية مؤسسة على رؤية فلسفية وسيكولوجية وسياسية مرتبطة بفضائها التاريخى والجغرافى والسياسى والطبقى، وفيها تحول حلم الشهداء فى إقامة جزائر عادلة إلى «حلم قيلولة»؛ حلم محترق ومشوه. ورغم ذلك استمر العمل على بناء حلم جديد لمجتمع جديد. «أمين الزاوى»، يكتب باللغتين العربية والفرنسية، ويعمل حالياً أستاذاً للأدب المقارن بجامعة الجزائر العاصمة، وهو محاضر زائر فى عدة جامعات عربية ودولية، وأصدر العديد من الروايات، منها: «صهيل الجسد»، و«الرعشة، و«الملكة»، و«شوينغوم»، و«الأصنام؛ قابيل الذى رق قلبه لأخيه هابيل». ترجمت أعماله إلى أكثر من عشر لغات، ونال العديد من الجوائز والتكريمات، منها: جائزة مؤسسة لافناك العالمية عن رواية «الخنوع» 1997، وجائزة رئيس الجمهورية الإيطالى «النجمة» للحوار الثقافى بين الشعوب 2007، وجائزة القلم الذهبى لمدينة الجزائر 2010، بالإضافة إلى وسام عباقرة الشرق من وزارة الثقافة اللبنانية 2008. يؤكد الزاوى فى حديثه أن تخلف مجتمعاتنا يعود فى جزء كبير منه إلى الاضطهاد المسلط على المرأة. وأن الرواية التى يكتبها تحاول أن تحفر فى ماهية الإنسان الفرد، والبحث عن المفارقات الطبيعية فى الوجود البشرى. وأن الكتاب الورقى سيتقلص وجوده فى حياة إنسان المستقبل شيئاً فشيئاً، وسيجىء زمن تُباع فيه الكتب الورقية كما تباع اللوحات الفنية والمنحوتات. تستعيد روايتك «منام القيلولة» فترة العشرية السوداء بالجزائر؛ وجرى التركيز فى الأحداث على مدينة وهران، لماذا اخترت هذه الفترة الزمنية؛ وهذا المكان تحديداً؟ تضع رواية «منام القيلولة» القارئ أمام صورتين تاريخيتين مختلفتين وعصيبتين للجزائر، الأولى هى فى زمن حرب التحرير الوطنية التى انطلقت فى أول نوفمبر 1954 وانتهت بانتصار الثورة على الاستعمار وإعلان الاستقلال الوطنى، أما الثانية فهى صورة عن سقوط تلك الجزائر المنتصرة والتى كانت مرتبطة فى مخيال وفى حلم الشهداء بجزائر عادلة وحرية؛ لتصبح جزائر يسوده العنف والإرهاب والتقتيل بين الإخوة فيما سمّىَ بالعشرية السوداء الدموية 1990-2000. وكأن حلم إقامة الدولة التى سكنت هاجس الشهداء ولأجلها ضحوا لم يكن سوى «حلم قيلولة»! أما اختيار وهران كفضاء خاصة فى الجزء الثانى من الرواية فأردت الوقوف من خلال الجغرافيا البشرية الجديدة فى الجزائر على التحول الديمغرافى، الذى خلقه النزوح الريفى إلى المدن بعد الاستقلال مباشرة وآخر سنوات الإرهاب، وما نجم عن ذلك الانقلاب الديمغرافى من صدامات حضارية وعمرانية وقلق فى بناء الشخصية وتفشى أمراض سياسية واجتماعية معقدة، ومدينة «وهران» واحدة من الفضاءات العمرانية النموذجية التى عرفت هذا الانقلاب الديمغرافى وما ترتب عليه من انزلاقات سياسية وأخلاقية واجتماعية وثقافية وفنية، أما الجزء الأول من الرواية فهو يجرى فى القرى الصغيرة المتماسكة والمقاومة والتى فى ظروف صعبة جداً استطاعت أن تصنع المعجزة؛ وهى معجزة الثورة التحريرية التى قامت بالأساس على الفلاحين الفقراء والبسطاء. المكان الروائى ليس بريئًا، إن الجغرافيا فى الرواية بتضاريس المكان تتكلم تاريخاً. تبدأ الرواية وتنتهى بمشهد جنازة البطل «المخ»؛ واقتياد أمه «لالة مسعودة القارح» إلى مصحة الأمراض العقلية، ما الهدف من ذلك؟ جميع سلوكات الشخوص فى رواية «منام القيلولة» مؤسسة على رؤية فلسفية وسيكولوجية وسياسية مرتبطة بفضائها التاريخى والجغرافى والسياسى والطبقى، فنهاية شخصية «المخ» مغتالاً، وهو الشاب الذى يتمتع بذكاء خارق والذى يرى فيه الآخرون جنونًا، اغتيال للعقل فى بلد أصبح يحكمه العنف والإرهاب، إن نهايته هى صورة لنهاية شاهد على مرحلة مضطربة فى تاريخ الجزائر، ولكن اغتياله من قبل الإرهاب لا يعنى نهاية المقاومة فهناك جيل لا يزال يحلم بصناعة جزائر العدالة والمعاصرة والحرية ومن هنا سيظهر أخوه إدريس الذى ظل شبحاً مخيفاً فى كل فصول الرواية، فموت أخيه سيعيد له الذاكرة ويجعل منه شخصاً مقاوماً للخراب، يظهر فى نهاية الرواية حاملاً للسكين نفسها التى ذبحت بها أمه أحد الخونة سنوات الثورة التحريرية. أما الأم التى تظهر فى نفس المشهد وهى تُقاد إلى مستشفى الأمراض العقلية بعد أن فقدت ابنها «المخ»، فهذه النهاية التى وصلت إليها «مسعودة القارح» الأم الشجاعة تحمل دلالات كبيرة، فعلى الرغم من قوة شخصيتها لكنها قوة مقاومة تناسب فترة تاريخية معينة هى مرحلة حرب التحرير الوطنية، وهى مقاومة على الرغم من صلابتها لكن لا يمكن استعمالها لمواجهة زمن الإرهاب حيث الأخ يقتل أخاه، تُقاد الأم إلى المصحة العقلية ويتولى ابنها إدريس الذى كان نزيلا فى المصحة ذاتها معركة الانتقام لأخيه والعمل على بناء حلم جديد لمجتمع جديد، وهو الذى يعلن فى نهاية الرواية بأن معركة الثورة التى قادتها أمه وأبوه الشهيد لم تنتهِ بعد، فهناك عدو جديد آخر يتربص بالبلد ولا يقل خطورة عن الاستعمار الكلاسيكى الفرنسى القاتل إنه الإرهاب والتطرف الأعمى. فى «منام القيلولة» تتعايش العبقرية مع الجنون فى شخصيات مثيرة؛ صنعها واقع متيبس وعنيف يعيشه الإنسان البسيط يومياً، كيف الخروج من هذا الواقع المتأزم؟ فى رواية «منام القيلولة» أشتغل على المجنون كقوة تنبؤية، كرادار لاستشعار المستقبل، فى كل إنسان منا جزء من الجنون وهذا المنسوب من الجنون يجعلنا نطل على العالم المعقد فينا وفى محيطنا، مجموعة من الشخصيات فى الرواية تعيش ما بين الجنون والذكاء الخارق والعبقرية والنبوءة، وهى حالات إنسانية وجودية متقاطعة ومتعايشة فى الفرد الواحد، وهو ما نلمسه جلياً فى إدريس والمخ وحليمة والرومى وأبو أرنب، والبحث فى لحظات العبقرية والجنون فى الشخصيات هى التى منحتهم وجوداً طبيعياً وخلصت الخطاب الروائى من الحس الأيديولوجى، فالإيديولوجيا والتاريخ لا تُكتشف إلا من خلال سلوك الشخصية داخلياً ونفسياً أى فى سلوكها اليومى البسيط والعادى. لقد انتهى زمن «البطل الإيجابى» و«البطل السلبى» كما فهمتهما الواقعية الاشتراكية فى الأدب، الرواية التى أكتبها تحاول أن تحفر فى ماهية الإنسان الفرد، بما فيه من سلب وإيجاب فى الوقت نفسه وحيال وضع معين ما. إن الإنسان ليس خطاً مستقيماً، الإنسان من حيث هو إنسان قائم على الهشاشة والضعف والقوة، على الخوف والشجاعة، على الرهافة والوحشية. وفى رواياتى أريد أن أبحث عن ذلك، عن هذه المفارقات الطبيعية فى الوجود البشرى. تحتل صورة المرأة الجزائرية صدارة معظم رواياتك؛ كيف ترى دور المرأة فى المجتمع الجزائرى، وما تقييمك لأوضاعها؟ لا تزال المرأة فى مجتمعات الجنوب أى فى بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعيش نوعاً من اللعنة التى تلاحقها من قبل قوى سياسية أيديولوجية. الدفاع عن حرية المرأة ومساواتها بالرجل ليست شعارات سياسية. إنها معركة ثقافية يومية، وأعتقد بأن تخلف مجتمعاتنا يعود فى جزء كبير منه إلى الاضطهاد المسلط على المرأة. هناك أصوات سياسية تربط تخلفنا بلباس المرأة، وأن حرية المرأة هى سبب مصائبنا من الجفاف مروراً بالزلازل والبطالة وصولاً إلى نكباتنا العسكرية المستمرة منذ 1967. ويستثمر أعداء المرأة فى الدين كى يعطوا خطاباتهم شحنة شعبوية، ولعل كثيراً من الأصوات المتطرفة تبحث عن الغريب والشاذ فى تراثنا الإسلامى وتخرجه عن سياقه التاريخى وترحله إلى زمننا هذا كى تضرب إنسانية المرأة وتعيدها إلى مربط العبودية. لا يمكن تحقيق أى تطور فى غياب المرأة، فحضور المرأة فى رواياتى جميعها وآخرها «منام القيلولة» هى صورة عن أشكال المقاومات التى تمثلها المرأة فى بناء الوطن، المرأة الحرة المتحررة هى رحم الوطن الحر المتحرر، المرأة ليست رحما للإنجاب ويداً فى المطبخ، إنها أكبر من ذلك بكثير. الجوائز والشهرة تؤثر بلا شك فى العلاقات بين المثقفين؛ وتؤدى إلى الكثير من المكر الثقافى والمكيدة بين الكتّاب؛ كيف ترى ذلك؟ الغيرة والحقد والكراهية ظواهر نفسية وتاريخية معروفة بين الكتّاب، ولا يمكن تفسير هذه الصراعات إلا بمدخل سيكولوجى، فكل كاتب يتصور نفسه نبياً، وإنتاج الكتب مرتبط فى اللاوعى بالأنبياء، وفى العصر الواحد لا يكون فيه إلا نبى واحد، فالسماء لا ترسل نبيين أو أكثر دفعة واحدة، لذا كل كاتب يعتقد بأنه هو النبى الذى أرسلته السماء إلى البشرية وأن كتبه هى التى يجب أن تكون المقروءة والصحيحة و«السماوية»، لذا فالحرب الرمزية التى تتحول إلى صراع يلبس تارة لبوساً سياسياً وطوراً أيديولوجياً وثالثة لغوياً أو دينياً هى فى الحقيقة صراعات على «الرمزية» أكثر منها على أى شيء آخر. ولأن الجوائز من خلال الإعلام والدعاية تكرس لهذه الرمزية، إضافة بطبيعة الحال إلى الناحية المادية التى تحققها بعض الجوائز، فإنها تصب الزيت على النار فتشتعل الصراعات أكثر فأكثر. كما أن الاستثمار فى هذا الصراع من قبل أنظمة سياسية أو دينية يجعل الأدباء وكأنهم فى حرب متواصلة، حرب دونكيشوطية سخيفة. تنظيمات الإسلام السياسى وتطور أحوالها من عقدة الضحية إلى الانتحار الإجتماعى، كيف ترى الدور الذى لعبته هذه التنظيمات؛ وما زالت، وما مستقبلها؟ أعتقد بأن تسييس كل شىء ومراقبة كل شىء فى مجتمعاتنا من قبل الأنظمة السياسية القائمة منذ الاستقلالات الوطنية، هو الذى جوّف الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية، فأصبح المواطن آلة تصنع لتنفجر لا لتعيش بفن ورُقِى، وفى هذه الرقابة والاستعمال السياسى والأيديولوجى كان الدين آلة ولعبة ناجحة فى المراقبة والتجييش، استغلته الأنظمة السياسية لمحاربة خصومها، واستثمر فيه خصوم الحياة لقتل الحياة، وكل طرف كان يجد له تبريراً لسلطته ولأحقيته فى وضع اليد على الدين كجهاز أيديولوجى شعبوى ناجع فى تعظيم آلة القمع، كل ذلك من داخل الحفر فى منظومة التراث وتأويله التأويل اللائق الذى يفسر هذه الأحقية. لقد تم تجفيف الدين الإسلامى؛ للأسف، من بعده الروحى والصوفى وأدخلوه فى متاهات سياسية وعلمية وطبية وتاريخية ليست من صلاحياته، وبالتالى حولوه إلى دروشة خارج التاريخ، وحين تجف الحياة من البعد الروحى الدينى والثقافى والفنى تصبح هذه الحياة مثل غابة، الأقوى فيها يأكل الأضعف، ويسود العنف والخراب، وهو ما يحدث فى بلداننا جميعها منذ نشوء أول تنظيم سياسى دينى معاصر وأعنى به تنظيم الإخوان المسلمين فى العام 1928. للخروج من هذا النفق علينا الدفاع عن مقولة «لكل واحد طريقه الخاص إلى الله لكن الطريق إلى الوطن هو طريقنا جميعاً، طريق بقوانين مرور يجب احترامها وإلا سادت الفوضى»، حينما نطبق هذه الحرية الفردية فى الاختيار الدينى والالتزام الجماعى فى المواطنة تجاه الوطن يمكننا أن نؤسس رؤية لإنقاذ البلد ومحاربة التطرف وصناعة الحداثة. فى رأيك أنه: «على الراوى أن يبدأ بتحريك أسئلة القارئ من العنوان». كيف تختار عناوين رواياتك؟ الاشتغال على العنوان مهم ومتعب كثيراً، أعتبر العنوان كتابة مستقلة بما تحمله من حالات سيكولوجية تجاه الذات الكاتبة، حيث يريد الكاتب أن يكون العنوان وفياً للنص، لكنه وفى الوقت نفسه غير تابع لهذا النص، العنوان ليس عملية اختصار أو اختزال النص الروائى، إنه هو نص آخر، مفتاح لنفسه أولاً. هناك علم مستقل فى النقد الأدبى يسمى علم العنوان، «العنوانولوجيا» «La Titrologie»، شخصياً مرات قد يجىء العنوان حتى قبل البدء فى كتابة الرواية، أى يكون عبارة عن تكثيف لحالة نفسية ما أو اجتماعية تراقبها أو تعيشها، هذه الحالة تتحول إلى رحْم تولد منها الكتابة وفيها تتشكل، ومرات أخرى أعثر على العنوان أثناء الكتابة وربما أكون قد قطعت شوطاً كبيراً فى إنجاز النص، ومرات أخرى أقع على عنوان معين وفى آخر لحظة أتنازل عنه لصالح عنوان آخر، الحقيقة اختيار العنوان عملية مرهقة جداً. فى ظل التطور التكنولوجى وانتشار القراءة الرقمية؛ كيف ترى مستقبل الكتاب الورقى والقراءة بشكل عام؟ فى تصورى لا يزال أمام الكتاب الورقى عشرات السنين من الحياة الثقافية والحضارية والنفسية، وحتى الآن لا يزال للكتاب الورقى مكانة بارزة فى الغرب المتقدم عنا بسنوات تكنولوجياً والحال نفسه فى اليابان وفى الصين، فالناس هناك لا تزال تقرأ الكتب وتعيش بالهواتف الذكية وتدخل عصر الذكاء الاصطناعى ومجتمع الروبوتات بسرعة مذهلة، ولا تزال نسبة مبيعات الكتب الرقمية منخفضة جداً فى البلدان المتقدمة إذ لم تتجاوز 17 فى المائة من مجمل مبيعات الكتب. ولكن على المستوى الزمنى والحضارى البعيد، سيتقلص وجود الكتاب الورقى فى حياة إنسان المستقبل شيئاً فشيئاً، وسيجيىء زمن تتحول فيه عملية نشر الكتب الورقية إلى عمل فنى، أى تصبح الكتب الورقية تباع كما تباع اللوحات الفنية والمنحوتات، وسيتغير شكلها وورقها، وستصبح جزءاً من المتعة الجمالية المرئية قبل القرائية كما اللوحة الفنية فى البيت. وأمام هذا الوضع الذى لا بد أنه قادم لا محالة، ستتحول المكتبات الكبرى فى العالم إلى متاحف من نوع خاص، لها زوارها وفضوليوها، وسيجىء جيل سيستغرب كيف كنا نقرأ فى هذه المجلدات التى تجلس على الرفوف، وكيف كنا نجمعها ونحافظ عليها فى بيوتنا وفى المكتبات العامة، وستتحول قاعات المطالعة فى هذه المكتبات الشهيرة والعريقة فى العالم إلى صالات عرض التحف من المنشورات الكتب القديمة والحديثة المبتكرة بعبقرية ومعايير جمالية جديدة. الكاتب العربى؛ كيف ترى حضوره وتأثيره فى محيطه العربى والعالمى؛ وهل تعتقد أن دور المثقف هو الذهاب إلى مربع الخطر؟ المثقف العربى المعاصر صوت غائب وفى أحسن الحالات، لا صدى له فى بلده، وحين يغادر بلده هذا يغادره؛ فى غالب الأحيان، لظروف سياسية مرتبطة بقمع الحريات الفكرية والإبداعية. لذا فهناك خطاب حاد تمارسه «الأنتليجانسيا» العربية تجاه بلدانها من موقعها فى المنافى، وهذا الحال من الغضب يجعل الكتابة إما «نوستالجية» أو إيديولوجية أو تصفية حسابات شخصية تجاه وضع سياسى معين. والغريب فى الأمر أن الغرب ينتظر من الكاتب العربى كتباً ونصوصاً سياسية لا نصوصاً أدبية جمالياً، تقرأ الكتب العربية الأدبية عند الغرب بمقياس علاقتها مع الأنظمة لا بمقياس علاقتها بالأدبية والجمالية. ما يترجم إلى اللغات الأجنبية من نصوص أدبية عربية قادم من البلدان العربية تعتبر فى نظر القارئ الأوروبى نصوص تنتمى إلى أدب «بروباجاندا»، وما يكرس هذه النظرة هى أن هذه الترجمة عادة ما تكون بدعم ورعاية من مؤسسات حكومية لا تؤمن بالحرية الفكرية ولا السياسية. أعتقد بأن الأصوات التى تقرأ وتؤثر سلباً وإيجاباً على القارئ الأوروبى هم الكتّاب الذين يكتبون باللغات الأجنبية الفرنسية أو الإنجليزية، من أمثال إدوارد سعيد ومحمد أركون وأمين معلوف. «اللغة هى ذاكرة الأمة»؛ وأنت تكتب باللغة العربية والفرنسية، أيهما أقرب إلى قلبك؛ ولماذا لا تكتب باللغة الأمازيغية؟ لم يسأل أحد جبران خليل جبران يوما لماذا كتب «النبي» بالإنجليزية، أعتقد بأن التعامل مع اللغة إبداعياً؛ كتابة، هى حالة سيكولوجية معقدة جداً، وتفسيرها أكثر تعقيداً. أنا لست من جيل محمد ديب وكاتب ياسين وآسيا جبار ومولود معمرى ومولود فرعون وغيرهم، هؤلاء الذين لم يكونوا يعرفون اللغة العربية وليست لهم إمكانية للكتابة بها ولا حتى القراءة بها. أنا كاتب خريج مدرسة الجزائر المستقلة، ليست لى أية عقدة لسانية، أقرأ المتنبى كما أقرأ ملارميه وأقرأ عمر بن أبى ربيعة كما أقرأ بودلير، وأقرأ نجيب محفوظ أو جمال الغيطانى كما أقرأ زولا أو ميشيل ولبيك، أمر من لغة إلى أخرى دون حواجز ولا عقد نفسية ولا وسيط يُملى علىَّ اختياره أو يفرض على ترجمة بمزاجه السياسى والجمالى، أنا روائى ومثقف عاش فى الشرق وعاش فى الغرب، أكتب بلغتيهما، وأحلق كالطير بجناحين متوازنين. حين أكتب بالفرنسية وقد نشرت فيها خمس عشرة 15 رواية ومجموعة من الكتب النقدية أعمل دائماً على نفخ الروح الجزائرية فى هذه اللغة، أعتبر نفسى من خلال رواياتى، الكاتب الذى يعمل على «جزأرة» اللغة الفرنسية. أنا لا أعتبر اللغة الفرنسية «غنيمة حرب» كما كان يعتبرها كاتب ياسين، إننى أرى نفسى غازياً؛ مستعمِراً لهذه اللغة، إن اللغة الفرنسية مستعمرتى الجديدة. وحين أكتب بالعربية أحاول قدر الإمكان أن أنفخ فيها بعضاً من أوكسجين البنى الجمالية والتركيبية القادمة من موسيقى اللغة الفرنسية. أعتبر اللغات جميعها مضيافة.