"لا أجلس مع الناس لأقتل وقتى، وإنما أجلس معهم لأخلق النبض فى حياتى، والطريقة التى أدير بها الحديث فى مجالسنا تشحذ خواطرى، وتساعد على تدريب عضلاتها، وفى كثير من الأحيان أترك بيتى أو مكتبى بعد عمل دائم يستمر حتى منتصف الليل، وأذهب إلى حيث أجتمع بناس أستريح لهم، أو أضيق بهم، فالراحة والضيق يثيران شوقى إلى الكتابة، وأنا لا أعرف كيف أكتب دون أن أحس لوعة الشوق وحرارته" هكذا كانت حياة الشاعر والأديب الساخر كامل بك الشناوى، يجد فى ليل القاهرة نهاره، فتراه يسهر خشية أن يباغته الموت ليلًا، هو الذى اختار حياة العزوبية طواعية، وفضلها على زيجة تحد من انطلاقه وتحول دون حريته، وكأنه أراد أن يستحلب كأس الحياة قطرة قطرة، لذا تجد مائدته عامرة بكل من يتخذون الليل ستارًا ودثارًا من الفنانين والأدباء وظرفاء جيله من الصعاليك والمتسكعين، يدخن بشراهة رغم إصابته بالسكر ومتاعب كبده، وهو بارع فى تقليد من يشاء، وتدبير المقالب، وكأنه طفل صغير، ثم يحكى لندمائه ما كان بشغف ومرح. حين بلغه أن أمير الشعراء يريد مقابلته بعد أن قرأ قصيدته المنشورة بالملحق الأدبى لجريدة "البلاغ" لم يتمالك نفسه من الفرح، وذهب إلى مسرح الأزبكية لعلمه بتردده على ذلك المكان، حدث ذلك فى يناير 1931، وما أن سمع شوقى اسم "كامل الشناوي" حتى ضحك قائلًا: "إن من يقرأ قصيدتك الأخيرة يتصورك شابًا نحيلًا دائبًا من الحب والهيام" وباغته: كم يبلغ وزنك؟ فقال الشناوي: 150 كيلو، وسأله ماذا يحفظ من شعره؟ فأطلق لصوته الرخيم العنان، وسرت نبراته تشق الفضاء: "أَبا الهَولِ طالَ عَلَيكَ العُصُر.. وَبُلِّغتَ فى الأَرضِ أَقصى العُمُر" وإذ بشوقى يصيح مفتتنًا بطريقته فى إلقاء الشعر، وقرر اصطحابه فى سيارته السوداء الفارهة ماركة "فيتون" إلى دار إقامته بالجيزة "كرمة ابن هانيء" تناولا الغداء معًا، ودهش شوقى من تلك الشخصية التى تنبض بالظرف والمرح والنقاء، وعهد إليه بإلقاء شعره فى المحافل الرسمية، فيما وقف الشناوى على جانب المرح والرقى فى شخصية أمير القوافى، وبعد الغداء طلب شوقى تجهيز السيارة، وركب كامل الشناوى إلى جواره منتشيًا بصحبته، ووجد السائق يتجه إلى العباسية، فسأله إلى أين سنذهب، فقال شوقي: سنمر على محمد لنأخذه معنا، فقال الشناوي: تقصد محمد عبد الوهاب؟ فأجابه هل يعجبك صوته؟ وحين قال "جدًا" شهد له شوقى بسلامة الذوق، وفى الطريق حكى أمير الشعراء للشناوى قصة سيارة صديقه الدكتور "محجوب ثابت" حين استبدل حصانًا له يدعى "مكسويني" بسيارة ماركة "أوفرْ لانْد" كانت بحالة متهالكة، وأنشده أرجوزته الخالدة عن تلك السيارة: "لَكُم فى الخَطِّ سَيّارَه.. حَديثُ الجارِ وَالجارَه/ إِذا حَرَّكَها مالَت.. عَلى الجَنبَينِ مُنهارَه/ وَقَد تَحزُنُ أَحياناً.. وَتَمشى وَحدَها تارَه/ وَلا تُشبِعُها عَينٌ.. مِنَ البِنزينِ فَوّارَه/ وَفى مَقدَمِها بوقٌ.. وَفى المُؤخِرِ زَمّارَه/ فَقَد تَمشى مَتى شاءَت.. وَقَد تَرجِعُ مُختارَه" ويسجل الشناوى فى يومياته فرحته الغامرة بلقاء أميرى القوافى والنغم شوقى وعبد الوهاب فى يوم واحد، وأن شوقى قدمه لعبد الوهاب بقوله: أعرفك بالأديب مصطفى كامل الشناوى. منحه والده الشيخ سيد سيد أحمد الشناوى ذلك الاسم المركب "مصطفى كامل" فى السابع من ديسمبر 1908، حبًا لشخصية الزعيم الوطنى الكبير، ونشأ بقرية نوسا البحر بمحافظة الدقهلية، واقتصر الاسم بعد التحاقه بالصحافة على "كامل الشناوي" ومنذ صباه أفتتن بالقراءة كوالده رئيس المحكمة العليا الشرعية، وكعمه الشيخ محمد مأمون الشناوى شيخ الأزهرِ الشريف، وفى حى "السيدة زينب" تشكلت ملامح شخصيته، والتحقَ بالأزهر فحفظ القرآن وعرف كشاعر قبل أن يبلغ السادسة عشرة، وترك الدراسة بعد حصوله على الشهادة الثانوية، وعكف على تحصيل المعارف المختلفة ودراسة الآداب العربية والعالمية، وقرأ نحو ألف كتاب، فيما استهل مشواره الصحفى مصححًا بجريدة كوكب الشرق عام 1930 لقاء أربعة جنيهات شهريًا، وحاز إعجاب طه حسين بعد عمله بجريدة "الوادي" وبظرفه الاستثنائى قص عليه نوادر أخطاء المحررين، فنقله عميد الأدب العربى من التصحيح إلى التحرير، وأظهر مهارة فائقة، وتعرف إلى كبار الشخصيات الصحفية والأدبية، كالعقاد والحكيم وأنطون الجميل، وصادق كبار الساسة وصناع القرار، وعمل مع السيدة روزاليوسف، وبسكرتارية تحرير جريدة الأهرام 1936، ثم رئيسًا لقسم الأخبار، واشتهر بباب "خواطر حرة" وفى عام 1952 عمل رئيسًا لتحرير جريدة الجمهورية، وعين رئيسًا لتحرير جريدة "الأخبار" فى ديسمبر عام 1962. عززت موهبته الأدبية وصول مقالاته إلى قمة هرم التفرد، ووظف معارفه ومصادره لخدمة مصالح الناس، ولمس نبض الشارع فكتب عن معاهدة صدقى – بيفن 1936، وحادث 4 فبراير 1942، وقضية الأسلحة الفاسدة، وعرف بقدرته على اكتشاف المواهب فى شتى المجالات ودعمها أدبيًا وماديًا، ومن أبرز هؤلاء: محمد حسنين هيكل، أحمد رجب، صلاح حافظ، أنيس منصور، كمال الملاخ، سعيد سنبل، مصطفى محمود، يوسف إدريس، كمال عبد الحليم، محمد الفيتورى، يوسف فرنسيس، طوغان، كما يعد الداعم الحقيقى لموهبة: عبد الحليم حافظ، كمال الطويل، نجاة الصغيرة، بليغ حمدى، وغيرهم، أما قلبه فوفقًا لتعبير مصطفى أمين: "مثل برامج السينما التى تتغير كل أسبوع، فكل رواية تعرض على شاشته هى "تحفة الموسم" و"آخر صيحة" و"أقوى ما عرض حتى الآن" وفى الفترة التى يحب فيها يصف المحبوبة بكل الأوصاف الحلوة والنعوت الجديدة... وهكذا فقلبه مثل جمهوريات أميركا الجنوبية، مليئة بالانقلابات والثورات والتغيرات والتبديلات" أما ظرفه ومقالبه فتحتاج مؤلفات لرصدها، من ذلك قوله لمحرر الرئاسة بإحدى الصحف وقد ضاق صدره من عدم كفاءة المحررين وكسل بعضهم: إن الأديب العظيم تولستوى يزور مصر مع الوفد السوفيتى فكيف لا تقابله وتجرى حوارًا معه، فقال المحرر: "ربما تكون الزيارة سرية" فنهره قائلًا: "فتش فى الفنادق واسأل ولا ترجع بغير الحوار" وراح كامل بك يتصل بموسى صبرى وبأصدقائه قائلًا: "الواد بيدور على تولستوى بالفنادق ولا يعرف أنه مات عام 1910". نال البكوية تقديرًا لدوره الوطنى ولم تنجح السلطة فى تدجينه، وقاد حركة ضد إصدار تشريع يمنع نشر أخبار القصر، ولعذوبة أشعاره تغنى بها عبد الوهاب " نشيد الحرية، أغنية عربية، الخطايا" وأم كلثوم "على باب مصر" وعبد الحليم: "أنت قلبى، حبيبها" ومحرم فؤاد "أنا لا أشكو" وتبقى "لا تكذبي" الأشهر والأكثر إثارة للجدل، قيل أنه قصد بها مطربتها "نجاة الصغيرة" ولحنها وتغنى بها عبد الوهاب ثم عبد الحليم، وغنى له الموسيقار فريد الأطرش درته "لا وعينيك" فيما لخص حياته التى كتب الموت نهايتها فى 30 نوفمبر 1965 فى بيتين ضمنهما قصيدته "يوم مولدي" أنا عمر بلا شباب.. وحياة بلا ربيع.. أشترى الحب بالعذاب.. أشتريه فمن يبيع.