وسط حالة من التشكك فى قدرة القانون الدولي على تحقيق العدالة التى ينشدها الفلسطينيون على مدار 8 عقود، قدمت المحكمة الجنائية الدولية أملا ونصرا معنويا لسكان قطاع غزة الذين يعيشون ظروفا مروعة مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي فى ارتكاب جرائم الحرب والإبادة بحقهم على مدار أكثر من عام، وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق كلٍ من رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما فجر زلزالا سياسيا، فلأول مرة تصدر المحكمة مثل هذا القرار ضد حليف غربى بارز. ◄ خطوة على طريق العدالة.. ووصمة عار تلاحق الاحتلال ورغم الشكوك التى تحيط بإمكانية تطبيق القرار فإنه يظل انتصارا معنويا للعدالة، كما أنه وصمة عار ستلاحق نتنياهو وجالانت إلى الأبد بحسب تعبير صحيفة «الجارديان» البريطانية، ووفقا لنص القرار فإن الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية وجدت أسبابا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وجالانت يتحمل كلٌ منهما المسئولية الجنائية عن «جريمة الحرب المتمثلة فى التجويع كأسلوب من أساليب الحرب» و«الجرائم ضد الإنسانية المتمثلة فى القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية» وذلك فى هجوم متعمد ضد السكان المدنيين. وأكدت المحكمة الجنائية الدولية أن قبول إسرائيل باختصاص المحكمة «غير ضرورى»، كما أصدرت المحكمة أمر اعتقال بحق القيادى فى حركة حماس محمد دياب إبراهيم المصرى المعروف باسم محمد ضيف لدوره فى هجمات 7 أكتوبر على إسرائيل، حيث لم يتم التأكد من التقارير التى أفادت باغتياله. وفى الوقت نفسه انتهت القضية بالنسبة للقياديين فى الحركة إسماعيل هنية الذى اغتالته إسرائيل فى العاصمة الإيرانية طهران فى يوليو الماضى ويحيى السنوار الذى اغتالته إسرائيل فى غزة فى أكتوبر الماضى. ◄ جذور القضية تعود جذور القضية إلى 29 أكتوبر 2023 حينما أعلن المدعى العام كريم خان أن مكتبه يجرى تحقيقات حول الوضع فى غزة والضفة الغربيةالمحتلة. وفى نوفمبر من العام نفسه قدم محامون يمثلون ضحايا العدوان الإسرائيلى شكوى إلى المحكمة تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية فى غزة، وفى مايو 2024، تبنت المحكمة خطوة غير مسبوقة وأعلن خان سعيه للحصول على أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت لاتهامهما بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفى أغسطس الماضى، طلب خان من قضاة المحكمة الجنائية الدولية عدم تأجيل إصدار مذكرات الاعتقال قائلا إن التأخير غير المبرر لهذا الإجراء سيؤثر على حقوق الضحايا فى الأراضى الفلسطينية، كما طلب أيضا رفض الالتماسات القانونية المقدمة بشأن مذكرات الاعتقال، وأكد أن المحكمة تتمتع بالولاية القضائية للتحقيق مع الإسرائيليين رافضا مزاعم تل أبيب. وفى سبتمبر الماضى، جددت إسرائيل محاولاتها لعرقلة القضية حيث قدمت طعونا رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن ولايتها القانونية فى القضية وبشأن شرعية طلب إصدار مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت. ومع إصدار المحكمة مذكرة الاعتقال التى حولت نتنياهو وجالانت إلى مشتبه بهما مطلوبين دوليا، توالت ردود الفعل التى تراوحت ما بين الترحيب والتأكيد على التعاون مع المحكمة والالتزام بالقرار، وما بين الإدانة والغضب والتوعد للمحكمة الجنائية الدولية، فمن جانبها، رحبت السلطة الفلسطينية بالقرار، وطالبت جميع الدول الأعضاء فى المحكمة وفى الأممالمتحدة بتنفيذه. كما دعت حركة حماس فى بيان المحكمة «إلى توسيع دائرة استهدافها بالمحاسبة، لكافة قادة الاحتلال المجرمين». وقال باسم نعيم القيادى البارز فى حماس إن مذكرات الاعتقال «خطوة مهمة على طريق العدالة وإنصاف الضحايا، ولكنها تبقى خطوة محدودة ومعنوية إذا لم يتم إسنادها بشكل عملى من كل الدول لتنفيذ هذا القرار والالتزام بالعدالة والقانون». وقال وزير الخارجية الأردنى أيمن الصفدى إن قرارات المحكمة الجنائية الدولية يجب أن تُنفذ وتُحترم وأضاف أن «الفلسطينيين يستحقون العدالة». وفي رد فعل جريء، أعرب رئيس الوزراء الإيرلندى سايمون هاريس عن استعداد بلاده لاعتقال نتنياهو، وردا على سؤال من شبكة «آر تى إى» الوطنية عما إذا كان سيتم اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى إذا وصل إلى البلاد لأى سبب من الأسباب، قال هاريس «نعم بالتأكيد.. نحن ندعم المحاكم الدولية ونمتثل لمذكرات الاعتقال التى تصدرها»، أما وزير الخارجية الهولندى كاسبار فيلدكامب فأرجأ زيارته لإسرائيل، وقال الوزير أمام البرلمان إن أمستردام ستمتثل من حيث المبدأ لقرار المحكمة الجنائية الدولية إذا سافر أىٌ من نتنياهو أو جالانت إلى البلاد. ◄ اقرأ أيضًا | المحكمة الجنائية الدولية تؤكد قانونية مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وجالانت وفى بروكسل، قال ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى جوزيب بوريل إن مذكرات الاعتقال التى أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ليست سياسية، مؤكدا ضرورة احترام قرار المحكمة وتنفيذه. وأضاف بوريل أن القرار ملزم للدول الأعضاء فى المحكمة وكذلك الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، وألمحت بريطانيا إلى احتمال اعتقال نتنياهو إذا سافر إلى المملكة المتحدة، وقال المتحدث باسم رئيس الوزراء كير ستارمر للصحفيين «هناك آلية قانونية واضحة ينبغى اتباعها.. الحكومة كانت دائما واضحة لجهة أنها ستفى بالتزاماتها القانونية» لكنه رفض الإدلاء برأى محدد فى شأن رئيس الوزراء الإسرائيلى، أما ألمانيا فقال المتحدث باسم حكومتها شتيفن هيبشترايت إن برلين ستدرس بعناية مذكرتى الاعتقال، لكنه أضاف «أجد صعوبة فى تخيل أننا سنجرى اعتقالات على هذا الأساس». وأشار إلى أنه كان من الضرورى توضيح المسائل القانونية المتعلقة بأمر الاعتقال، لكنه رفض الرد على سؤال عما إذا كان نتنياهو محل ترحيب فى ألمانيا، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف لوموان إن رد الفعل الفرنسى على أوامر الاعتقال سيكون «متوافقا مع قوانين المحكمة الجنائية الدولية»، لكنه رفض أن يقول ما إذا كانت فرنسا ستعتقل نتنياهو إذا جاء إلى البلاد واعتبر أنها «نقطة معقدة قانونيا». ◄ توعد أمريكي وعلى النقيض من ذلك جاء رد الفعل الأمريكى حادا، حيث اعتبر الرئيس الأمريكى جو بايدن أن قرار المحكمة «مثير للغضب»، وانتقد المحكمة لمقارنتها تصرفات إسرائيل بعد هجوم حماس بتصرفات الحركة. وأكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومى أن الولاياتالمتحدة التى لم تنضم للمحكمة «ترفض بشكل قاطع القرار». وأشار إلى أن واشنطن ترى «أن المحكمة الجنائية الدولية لا تتمتع بولاية قضائية فى هذه القضية»، وأضاف أن الولاياتالمتحدة «تناقش الخطوات التالية مع شركائها، ومن بينهم إسرائيل»، وفى الوقت الذى يترقب فيه الجميع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لم يعلق الرئيس الأمريكى المنتخب على القرار، إلا أن مستشار الأمن القومى فى إدارته المرتقبة مايك والتز توعد ب«رد قوى» على ما وصفه ب«التحيز المعادى للسامية» للمحكمة الجنائية الدولية بعد تنصيب ترامب فى يناير المقبل. أما السيناتور الجمهورى الأمريكى ليندسى جراهام، الحليف المقرب لترامب فقال «المحكمة مزحة خطيرة»، ودعا مجلس الشيوخ إلى طرح مشروع قانون أقره مجلس النواب لمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية، وفى بيان لها، اعتبرت الرئاسة الأرجنتينية أن قرار المحكمة «يتجاهل حق إسرائيل المشروع فى الدفاع عن نفسها فى مواجهة هجمات مستمرة تشنها منظمات إرهابية». وفى تحدٍ للمحكمة قال رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان إنه سيدعو نتنياهو لزيارة البلاد مضيفا أنه سيضمن عدم «تنفيذ» مذكرة الاعتقال التى أصدرتها المحكمة الجنائية. ◄ غضب إسرائيلي وفى إسرائيل، أثار القرار موجة من التصريحات النارية الرافضة للقرار، حيث واصل المسئولون الإسرائيليون ادعاءاتهم الكاذبة، فقال مكتب نتنياهو «إسرائيل ترفض باشمئزاز الإجراءات العبثية والخاطئة التى اتخذتها ضدها المحكمة الجنائية الدولية»، وزعم أن هذه الخطوة «معادية للسامية». أما الرئيس الإسرائيلى إسحاق هرتسوج فزعم أن القرار «اختار جانب الإرهاب والشر على حساب الديمقراطية والحرية، وحوَّل نظام العدالة الدولى نفسه إلى درع بشرى لجرائم حماس ضد الإنسانية»، وادعى وزير الخارجية الإسرائيلى جدعون ساعر أن القرار «لحظة مظلمة للمحكمة الجنائية الدولية»، وزعم أن المحكمة «فقدت كل شرعيتها» وأنها أصدرت «أوامر عبثية دون سلطة». فى حين قال وزير الأمن القومى الإسرائيلى اليمينى المتطرف إيتمار بن غفير «المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى تظهر مرة أخرى أنها معادية للسامية تماما». واعتبر الوزير السابق بينى جانتس أن القرار «عمى أخلاقى وعار تاريخى»، فى حين قال زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد إن القرار «مكافأة للإرهاب». ويطرح هذا التباين فى ردود الفعل معضلة حول إمكانية تنفيذ القرار واعتقال نتنياهو بالفعل خاصة أن المحكمة لا تملك وسائل لتنفيذ قراراتها، فهى لا تملك قوة شرطة. وبالتالى فإنه على الرغم من أن قرارات المحكمة ملزمة إلا أن تنفيذها يعتمد على تعاون الأعضاء، وهو ما يعنى أنه فى حال سافر نتنياهو أو جالانت إلى أىٍ من الدول ال124 الأعضاء فى المحكمة فإن السلطات فى هذه الدول ملزمة باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى أو وزير الدفاع السابق وتسليمهما إلى مقر المحكمة فى مدينة لاهاى الهولندية، ومع ذلك فإن نتنياهو وجالانت ربما لن يتعرضا للاعتقال فى حال سفرهما إلى دولة حليفة لإسرائيل الأمر الذى يجعل قرار المحكمة الجنائية الدولية سيكون مجرد «انتصار أخلاقى» لفلسطين أكثر من أى شيء. ومع ذلك فإن أمر الاعتقال يعمق الضغط الدولى على إسرائيل لأن سفر نتنياهو للدول الصديقة سيمثل إحراجا للحكومات. وفى حال سفر نتنياهو أو جالانت إلى دولة ما دون أن تنفذ سلطاتها أمر الاعتقال فإن هذه الدولة ستواجه عقوبة لا تتعدى لفت النظر الدبلوماسى. كانت المحكمة الجنائية الدولية قد تأسست بصفة قانونية فى يوليو 2002 بموجب «ميثاق روما» الذى وافقت عليه 120 دولة فى يوليو 1998 خلال اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة فى إيطاليا، وتختلف المحكمة الجنائية الدولية عن محكمة العدل الدولية، حيث تنظر الأولى فى قضايا ضد الأفراد فى حين تنظر الثانية القضايا ضد الدول. كما أن المحكمة الجنائية الدولية مستقلة قانونا على العكس من محكمة العدل التى تعد أحد أجهزة المنظمة الأممية. وقبل نتنياهو وجالانت، سبق أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات لعدد من قادة ورؤساء الدول مثل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين والرئيس السودانى الأسبق عمر البشير الذى كان أول رئيس فى الحكم يصدر بحقه مذكرة اعتقال. وهناك أيضا الزعيم الصربى سلوبودان ميلوسوفيتش والرئيس السابق لساحل العاج لوران جباجبو والرئيس الليبيرى السابق تشارلز تايلور والرئيس الكينى السابق أوهورو كينياتا وسيف الإسلام القذافى نجل العقيد الليبى الراحل معمر القذافى ورئيس إفريقيا الوسطى السابق فرانسوا بوزيزيه. أخيرًا، فإن قرار الجنائية الدولية خطوة مهمة على طريق العدالة المستحقة للشعب الفلسطينى، إلا أن صعوبة تطبيقه تعد دليلا جديدا على ازدواجية المعايير الدولية، ورغم العار الذى سيظل يلاحق نتنياهو فإن مذكرة اعتقاله قد تكون سببا لتوحد الإسرائيليين خلفه مع تكرار الاحتلال لمزاعم المظلومية ومعاداة السامية.