بحضور جمهور غفير ملأ جنبات مبنى «قنصلية»، تحدث الكاتب الليبى هشام مطر عن كتابه الجديد الصادر مؤخرا «شهر فى سيينا» فى لقاء نظمته دار الشروق مساء الثلاثاء الماضي. قدمت اللقاء وأدارته الكاتبة أهداف سويف، وقالت فى تقديمها إن هشام مطر مولود فى نيويورك لأبويين ليبيين، حيث كان والده يعمل فى السلك الدبلوماسي. عاد هشام مع أسرته إلى ليبيا وقضى فيها جزءا من طفولته، ثم غادرها إلى القاهرة، ومنها تم إرساله إلى إنجلترا للدراسة، وخلال تلك الفترة تم اختطاف والده فى حادثة شهيرة كانت نقطة مركزية فى حياته ومن عندها بدأ كل شيء. من خلال حوار أهداف سويف وأيضا من خلال أسئلة الحضور يمكننا أن نفهم الكثير عن طبيعة الكتاب الجديد وأسباب كتابته، وربما جزءا من شخصية هشام مطر نفسه. بدأ هشام حديثه من نقطة الوعى بالكتابة، قال: «قبل أن يجد الكاتب قلمه هناك روح تدله على شغفه». لكنه حتى بعد أن تعرف على شغفه كانت تنقصه القدرة «معى طموح الكتابة لكن ليس لدىَّ القدرة»، التشتت الذى أصابه وقتها كان له عوامل شخصية وتاريخية، فلم تكن فى طفولته وشبابه نماذج كثيرة لكتاب يعيشون من الكتابة وحدها، لم تكن هناك نماذج يمكنه الاقتداء بها والسير على دربها، بعكس ما حدث مثلا فى أمريكيا اللاتينية حيث مهد كارلوس فوينتس ويوسا وماركيز، أو ما أسماه ب«جيل الانفجار» الطريق للأجيال القادمة «أعطوهم هدية»، بينما لم تتح له ولجيله هذه المسارات «كنا نتعشم أن يحدث ذلك مع نجيب محفوظ، ولكنه أثر من الصعب أن يُحدثه شخص واحد حتى لو كان عملاقا كمحفوظ». فى مرحلة التفكير بالعمل شغلته ثلاثة أشياء كانت العمارة فى مقدمتها، ثم الموسيقى، وأخيرا الأدب، ولأنه كان يحب الرسم فاختار العمارة، وهى الأقرب للأدب فى الوقت نفسه «همها الأساسى مقارب للهم الأساسى للأدب وهو: معنى الحياة أو كيف تعيش» بالإضافة لتشابههما فى تعزيز الانتباه والاهتمام بالشىء وأثره، يقول إنه فى أول يوم له بالجامعة طلب منه أن يراقب شجرة وأن يرسمها فى ثلاث ساعات «الرسم يعلم النظر بدقة، همه الأساسى هو الانتباه، والانتباه يغير الوجود. فإذا انتبه لك أحدهم قد يكتشف فيك أشياء لا تعرفها عن نفسك، والعكس صحيح أيضا، إذا أردت إهانة شخص فالأفضل أن تتجاهله، لأنك لو أعطيته اهتمامك سيعطل مشروعك»، يتشابه الأدب والهندسة أيضا فى تبعية الشكل للغرض، ففى العمارة تبنى المبانى حسب الغرض الذى ستستخدم فيه «وشكل الرواية وطريقة سردها لابد أن تنبع من اهتماماتها وفلسفتها وليس فقط قصتها». خلال سنوات دراسته فى لندن كان هشام يتردد على المتحف الوطنى يوميا، جذبته الأعمال الفنية التى خرجت من مدينة سيينا الإيطالية، ولم يتمكن وقتها من التعبير عما يشغله فى هذه اللوحات بالتحديد «كانت بعيدة فى الوقت وفى الثقافة» ففى القرون ال 12، 13، 14 حدثت نهضة فنية فى تلك المدينة خلال نهاية ما يسمى بتأثير كنيسة الشرق، وقبل حتى أن تبدأ النهضة الإيطالية. لم يكن للفنانين فى هذه المدينة ثقة أو ثقل مايكل أنجلو وغيره من الفنانين الكبار لكنهم كانوا يحاولون بعفوية وجرأة رغم صعوبة الأجواء وبدائية المواد المستخدمة، والتى تجبرهم سرعة جفافها على الرسم بدقة وسرعة فى الوقت نفسه. تزامن اهتمامه باللوحات مع الوقت الذى اختطف فيه والده «كانت سنة معقدة بالنسبة لي، ولم يكن من الممكن أن أحكى لأى شخص، لأنه موضوع ملىء بالألم والأسرار». قبل أن يكتب كان يظن أن الكاتب يختار كل شيء «لكنى اكتشفت أن الكتاب يأتى بشكله وبطبيعته، أنت فقط تختار الطرق التى تتبعها لتحقيق هذا الشكل». قبل أن يكتب أى شيء أيضا كان يظن أن الكاتب يجلس ليكتب وقتما يريد، لكنه اكتشف أن المسألة ليست كذلك على الإطلاق «أنت تكتب فى اللحظة التى ليس لديك فيها وقت للكلام» وحالة اختفاء والده كانت واحدة من تلك الحالات، لم يكن لديه كلام يصفها أو يعبر عنها. أجل سفره لسيينا نفسها كثيرا لأنه لم يكن يرغب فى مجرد زيارة عابرة، كان يريد الإقامة لفترة، ولم يتحقق ذلك إلا بعد انتهائه من كتاب «العودة»، الكتاب الذى يتقصى فيه أثر والده، وكأنه كان يقضى دينا أو يوثق الصلة بينه وبين والده التى بنيت عبر تلك اللوحات. ويصف تجربة الكتاب فيقول إنها كانت تجربة صعبة جدا «شعرت أنه خارج من عروقي» لذا بعد سنوات من العمل عليه شعر بالتحرر والانعتاق، فبدأ فى تنفيذ مشروعه المؤجل بزيارة سيينا، وهناك تكرر الأمر نفسه الذى تسبب فى هوسه باللوحات «حدث شيء ما بينى وبين المدينة، أصبحت كأنها عدة أدوات أستطيع استعمالها لهذه اللحظة بالذات». يقصد بالطبع لحظة افتقاده لوالده. خلال الشهر الذى قضاه هناك سجل مذكرات، ثم تركها وعاد لحياته، واستأنف العمل فى مشروع جديد كان رواية «أصدقائى». وكل فترة يعود لقراءة المذكرات «لأثبت لنفسى أن تلك الحالة السحرية كانت حقيقية». زار سيينا مجددا بعدها بفترة ووقتها شعر بأن «غبار الوقت» بدأ يتكون على رحلته الأولى، فتأكد من أن أوان تسجيلها قد حان، فعمل على المذكرات التى كان قد سجلها لمدة 6 أسابيع، ثم ترك الكتاب ما يقارب العام وعاد إليه مجددا فعمل عليه 6 أسابيع أخرى حتى انتهى منه تماما. لاتزال علاقته باللوحات ممتدة حتى الآن، أصبح يتعامل معها بنوع من الصحبة، كان يذهب للمتحف يوميا ويجلس أمام لوحة واحدة لمدة 20 دقيقة وبعد أسبوع يتركها ويذهب لأخرى، حاليا لم يعد يذهب بالوتيرة نفسها، ربما مرة أو مرتين فى الأسبوع لكنه أصبح يعطى اللوحة الواحدة ما بين 6 أشهر وعامين! «اللوحة نفسها لها تاريخ؛ حياة الرسام وتأثيرات الزمن. فالاهتمام الصادق والحقيقى باللوحات يأخذ وقتا»، ورغم ذلك يشير إلى دراسة تقول إن الناس تستغرق حوالى 4 ثوان ونصف أمام لوحات المتاحف. تسأله أهداف سويف عن النزعة الصوفية الممتدة على طول الكتاب، عن الوعي، والتأمل والاحتفاء بالإنسان فيقول: «أنا منبهر فعلا بكونى إنسانا»، يتأمل جملته وبعد فترة صمت يقول «ربما تكون سذاجة منى، لكن لا يوجد شىء يملؤنى بالفخر كإنسانيتى، والعكس.. فإنسانيتى تملؤنى بالخزى أيضا» فالإنسان فى نظره يولد فى قصص ويرث تاريخ البشرية كله، ليس بشكل رمزى، بل بشكل فعلى وعملى، فهو أخ للإنسان النبيل وللمجرم أيضا، وعليه أن يفكر فى ذلك ويستخدمه فى الإبداع وأن يصاحبه هذا الموروث فى كل جملة يكتبها «يمكن بسهولة أن تقع فى الفخ وتظن أن موضوع الكتابة يخصك وحدك. لكن الكتابة تفرض عليك التواضع لأنها تكشف أنك جزء من عدة أشياء، بل حتى من الأشياء التى ترفضها». جلوس الكاتب للكتابة وحده يساهم فى هذا الإيحاء من وجهة نظره، يساهم فى فقده لواحدة من الحقائق الأساسية وهو أنه جزء من أوركسترا كبيرة «كتابك نابع من تاريخ ثقافى يتبع لآخرين بالضرورة». ولو اضطر هشام مطر لتلخيص وتبرير سبب جلوسه للكتابة فسيكون انبهاره بهذه الحالة المعقدة بالتحديد «وربما أقرأ للسبب نفسه أيضا، أن أجد نفسى شخص آخر تماما. فالأدب يوسع العقل والقلب».