قد يغيب شخص ما عنك أعواما لكنه يحضر فى خاطرك لتعرف فيما بعد أنك فى تلك اللحظة التى ورد فيها هذا الخاطر كان يفكر فيك أيضا أول درس نُعلّمه لطلابنا أن يكون الناقدُ موضوعيا فى حُكمه، محايدا فى رأيه النقدى لأن آفة الرأى الهوى لكن ما ألفيتُه عند بعض نقادنا المصريين وغير المصريين العجب العُجاب؛ وهو محاولة إخراج عباقرة مصر من مصريّتهم التى جرت فى عروقهم فتركوا النقد والتأريخ الأدبى وراحوا يعملون «نَسَّابة» ولا يكتفون بالبحث والتنقيب عن الأب والأم والعائلة أو القبيلة بل ينبشون فى جدات الجدات وخال الجد حتى يجدوا واحدا من هؤلاء غير مصرى وهنا ينسبون هذا العبقرى الأديب أو الفنان أو المفكر أو العالِم إلى أصل غير مصرى وهذا سرُّ نبوغه كما يشيرون لذلك ضمنا.. وهذا يذكَرنى بما كان بعض أصدقائنا يفعلونه عندما كنا بالمدرسة فإذا ما فُصِل أحدهم من المدرسة وطالَبَه الناظر أن يأتى بوليِّ أمره غدًا حتى يسمح له بدخول الفصل فكان الطالب يذهب إلى أى واحد قريب أو بعيد ويرجوه أن يأتى معه متوسّلا للناظر أن يعفو عنه، ورحمةً بالطلاب كان هذا أو ذاك يقبل المجيء معه ويتفقان على أن هذا الرجل هو خال التلميذ، ولأن الناظر يعرف أنه ليس بخاله فهو يعرف القرية فردا فردا ولكن من أجل الزّجْر كان الناظر يتغابى مصدقا أنه خال التلميذ فيُدخِله المدرسة مشترطا على خاله المُتَوهَّم ألا يرتكب «ابن أخته» مخالفةً أخرى ويتعهد هذا الرجل -الذى ربما لا يعرف اسم التلميذ- بذلك؛ وهذا ما يبنى عليه بعض مؤرخى الأدب وسأسوق إليك ما خطّه مؤرّخو الأدب والنقد فعباس محمود العقاد الأسوانى «وُلِد لأمٍّ من أصول كُردية» والشاعر أحمد محرم «من أصول شركسية» هكذا عرّفوه، وهم يعلمون أنه عاش وأجداده بمصر وكان مصريا؛ والشاعر محمود سامى البارودى «وُلد لأبوْين من الجراكسة» وجده كان «آمرا للمدفعية فى الجيش العثماني» وينتمى إلى «الشركس والأتراك والمماليك» كيف جمع هذا «الكوكتيل»؟ ولم يتذكر هذا المؤرخ أو الناقد أن يضيف «ومصر» إلى هذا الثلاثى العجيب الذى لا يجتمع إلا فى خياله المريض، وكأنّ البارودى لم يولد بمصر ولم يعش بين أهلها ولم يشرب من نيلها ولم يدافع عنها ويُنفَى من أجلها! وأما العجب المعجِب فتجده فى تعريف أحمد شوقى فهو ينتمى «لأب شركسى وأم يونانية» وفى مصادر أخرى «أن أباه كردى وأمه من أصول تركية وشركسية» وبعض المصادر تقول: «إن جدته لأبيه شركسية وجدته لأمه يونانية» يا سلام على هذا الاكتشاف العبقري، ولو أن هذا الناقد كان ذاهبا لأحمد شوقى ليخطِب ابنته للمحروس ولده لما سأل عن جدة جدة العروس وعن جدة أم العروسة. كل هذه محاولات لتفريغ مصر من عظمائها، وتجريد المصريين من نوابغهم وحتى تتيقن من كلامى فانظر ماذا كتبوا عن حافظ إبراهيم المولود بأسيوط بصعيد مصر وشاعر النيل وشاعر الشعب «من أم تركية» أية خاطِبة هذه التى سألت عن أمه وأصلها وفَصْلها؟، هل يسأل أحد منكم عن جدة الأم وجدة الأب عندما يخطِب «عروسة» لابنه؟ وأما أحمد زويل فهو عالم أمريكى ومجدى يعقوب طبيب بريطانى ويوسف شاهين «والده لبنانى وأمه من أصول يونانية هاجرت أسرتها إلى مصر فى القرن التاسع عشر»، ولستُ متعصبا ضد أية قومية أخرى فهذا يغذى العقول ويعمل على تنامى الثقافات لكن ما تأثير جدة الوالدة على الشاعر أو الفنان هذا إن كان عاصرها؛ ولا أدرى ماذا سيكتشفون فى «جَرْد» نجيب محفوظ ابن حارة الجمالية فربما يكتشفون أصوله السّرّية، وأنه ينتمى لآدم عليه السلام ولم تكن جنسية آدم مصرية لأنه كان يمثل الأرض كلها وعلى هذا فنجيب محفوظ ليس مصريا؛ هؤلاء مصريون دما ولُحمة وثقافة وحضارة فاتركوا هؤلاء لنا وابحثوا عن أمجاد لكم بعيدا عن عظماء المصريين!! ومن المدهش فى الأمر أنهم يروّجون هذه الأكاذيب على أنها حقائق فينبشون فى «جَرْد» الأدباء والمفكرين والفنانين والعلماء المصريين العظماء ليجردوهم من أصولهم المصرية ومَشربهم الخالص ولا أدرى كيف ينقله نقادنا المصريون والإعلام المصرى ويرددونه دون فهم مقصده وقد تجده فى مناهج التربية والتعليم وهذه الكتب تُخرجهم فى عقول أبنائنا من مصريتهم دون شك.. اتركوا لنا مَن نبغ من مصر وفوق أرض مصر وإلا سنفتح «الجرود» كلها والبادئ أظلم. خاطِرٌ ما كم من خاطرٍ يأتيك دون استدعاء، لا تدرى كيف قَدِم؟ ولا مبرّر وجوده.. لكنك مشدوه إليه، لا تدرى لماذا؟ قد يغيب شخص ما عنك أعواما لكنه يحضر فى خاطرك لتعرف فيما بعد أنك فى تلك اللحظة التى ورد فيها هذا الخاطر كان يفكر فيك أيضا أو كان يمر بأزمة ما، هذا الخاطر يقف العلمُ أمامه عاجزا، كيف يفسر وُرود اسم ما على ذاكرتك ربما لم تره قبل سنوات وتحاول نسيان الأمر وتسير فى الشارع فتراه ماثلا أمام عينيك، هل حدث هذا معك من قبل؟ هل لأن حدود العقل أكبر مما نستخدمُ منه وأن لديه قوى أودعها الله تعالى لمَّا تُستخدمْ بعد؟ ربما هى الكرامات ربما الصُدف والعجائب.. ربما ما لا نفسره الآن. مراحيض الطرق العامة على أثر اهتمام مصر ببناء الكبارى وتشييد المحاور ورصف الطرق الطويلة بمعايير عالية دقيقة وهو جهد مشكور لكن خلَتْ تلك الطرق ولاسيما التى تمتد إلى مئات الكيلومترات من مرافق عامة لائقة بالبشر، لماذا لا تكون هناك دورات عامة كل 50 كيلومترًا؟ ولا سيما على طرق الصعيد والدلتا والإسكندرية الطويلة؟ فهل نسى المهندسون شأن المراحيض وهى حاجة بشرية مُلِحّة لاسيما لكبار السن والنساء والأطفال، وهل نتدارك الأمر وننشئ مراحيض عامة نظيفة ولو بأجر رمزى يوفّر رواتب مَن يقومون بتنظيفها حتى لا تترك دون عناية ورقابة، وأما القول إن ذلك متروك للاستراحات الخاصة فالكل يعرف أنها لا تهتم بالنظافة ولا رقابة عليها ومتباعدة فيما بينها مئات الكيلو مترات وهذا أمر يعانى منه المسافرون وكتب عنه السياح فلنتداركْ الأمر ولا سيما فى محطات القطارات السريعة التى ننظر تسييرها ببالغ الشوق، وفى طريق الصعيد الممتد أكثر من ألف كيلومتر. أستاذى قناوى صوته يأتينى كل عيد على هاتفى مهنئا وداعيا لى بالصحة والبركة، يأتى صوته واهنا بعدما جاوز المائة عام لكنه ما يزال يقرأ صحيفة «الأخبار» وإذا أبصر مقالا لى هنا أو هناك بادر بمهاتفتى مشجعا ومثنيا ومضيفا إشارات لم أنتبه إليها، إنه أستاذى الأستاذ قناوى أحمد قناوى مدرّس اللغة الفرنسية عندما كنت طالبا بمدرسة قفط الثانوية المشتركة، أستاذ مهيب طويل القامة نحيف البنية له عنيان كالصقر، كان والأستاذ دسوقى البجع يمثلان الفرانكفونية الفرنسية فى المدرسة بينما كان الأستاذ على شيخ العرب والأستاذ عبد الباسط محمد أحمد يشكلان الإنجليزية وأعمدتها الراسخة، أطال الله عمر أستاذى الأستاذ قناوى وأبقاه الله لنا معلما وناصحا ومهاتفا لى فى الأعياد السعيدة بصوته ومحبته وأبقى الله لى أساتذتى ورحم من ارتحل منهم إلى جنة الخلود. عفريت القِيّالة نوم القيلولة مقدس فى الصعيد، قد يكون الجو الحار ظهرا عاملا رئيسا لديمومة النوم فى الظهيرة فلا تبصر أحدا يمشى فى شوارع القرية فى هذا الوقت ولو أردنا نحن الصغار أن نخرج كان الأهل يخوِّفوننا من «عفريت القيَّالة» الذى يتمشى فى الظهيرة ويخطف الأطفال ويقتلهم فلا نجرؤ على الخروج وإنما نمكث فى بيوتنا نائمين، ونحن نتخيل عفريت القيالة الذى لا تؤثر فيه الشمس ولا حرارة الجو وإنما يتمشى بينما الناس يهجعون فى بيوتهم، كان مخيفا لنا ولذا كان السكون يلف أرجاء القرية فى وقت القيلولة وكأنها خلت من البشر، ولا يمشى بها سوى عفريت القيالة. فى النهايات تتجلى البدايات كيف الأمورُ لديكُمُ والحالْ؟ كمْ قد تضاءلْنا ولم يتبقّ من شيءٍ نقدّمهُ سوى هذا السؤالْ.