يحتفل المسلمون في جميع أنحاء العالم بذكرى المولد النبوي الشريف 2024 ، وهي ذكرى ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، و الاحتفال بذكرى مولد النبي مِن أفضل الأعمال. يعد الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف 2024 مِن أفضل الأعمال وأعظم القربات وأجلِّ الطاعات؛ لما فيه مِن التعبير عن الحب والفرح بمولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو أصلٌ مِن أصول الإيمان؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» أخرجه الشيخان. عادة المصريين في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد درج المصريون عبر العصور على جعل يوم مولد النبوي الشريف صلى الله عليه وسلم عيدًا، وبدأ الاحتفال به بصورة عامة ورسمية منذ عام (973ه)، وتوالت احتفالات المصريين به بعد ذلك؛ حتى عُرفوا بحبهم للاحتفالات الدينية؛ لأن الله تعالى لَمَّا وهبهم صدق المحبة والاتباع؛ أنعم عليهم بمعرفة قدر هذا مولد النبوي الشريف الجليل الذي امتنَّ اللهُ به على الخلق أجمعين، فصاروا كل عام يجددون فيه الفرح والسرور برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وخصَّصوا لأجْله المنح المالية؛ كما في "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف " للعلامة حسن السندوبي (ص: 24، ط. الاستقامة)، وقرَّروا أن يكون اليومُ الموافقُ ليوم مولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم عطلةً من العطلات الرسمية السنوية؛ كما في "التراتيب الإدارية" للعلامة عبد الحي الكتاني (2/ 200، ط. دار الأرقم)، وكما نقل الحفاظ والمؤرخون هذا الحدث العظيم ضمن عادات الدولة الرسمية التي يقوم عليها كبراؤها وقادتها؛ كالحافظ ابن حجر العسقلاني [ت: 852ه] في "إنباء الغمر بأنباء العمر"، وجمال الدين ابن تغري بردي [ت: 874ه] في "النجوم الزاهرة" في جملة حوادث الأعوام، ولا فرق في ذلك كله بين مسلم وغيره، بل هو توسعة على المجتمع كله وفسحة؛ أسوةً بمن هو أجودُ بالخير مِن الريح المرسلة صلى الله عليه وآله وسلم في كل نَفَس وَلَمْحَة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]؛ فقد تأثرت الشخصية المصرية بفحوى الأوامر الشرعية، حتى اعتادت تحويلها إلى قيم حضارية، وممارسات سلوكية، فمارست العبادات قولًا وفعلًا، وعاشت الدين شرعًا وطبعًا؛ إذ هداها حُبُّ النبي الأمين، وحُبُّ آل بيته الطيبين الطاهرين؛ صلى الله عليه وآله وسلم في كل وقت وحين، إلى صراط الله المستقيم، ومِنهاجه القويم، حالًا ومآلًا؛ فصدق عليهم قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 52-53]. حكم الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيت والأولياء المولد النبوي الشريف إطلالة للرحمة الإلهية بالنسبة للتاريخ البشري جميعه؛ فلقد عَبَّر القرآن الكريم عن وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رحمة للعالمين، وهذه الرحمة لم تكن محدودة؛ فهي تشمل تربيةَ البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم وتقدمهم على صعيد حياتهم المادية والمعنوية، كما أنها لا تقتصر على أهل ذلك الزمان؛ بل تمتد على امتداد التاريخ بأسره ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [الجمعة: 3]. والاحتفال بذكرى مولد سيد الكونَين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبي الرحمة وغوث الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل الأعمال وأعظم القربات؛ لأنها تعبير عن الفرح والحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل من أصول الإيمان. وقد صَحَّ عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يُؤمِنُ أَحَدُكم حتى أَكُونَ أَحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أَجمَعِينَ» رواه البخاري. قال ابن رجب: [محبَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصول الإيمان، وهي مقارِنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها اللهُ بها، وتَوعَّدَ مَن قدَّم عليهما محبَّة شيء من الأمور المحبَّبة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة: 24]، ولما قال عُمَرُ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رَسُولَ اللهِ، لأَنتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إلا مِن نَفسِي، قَالَ النبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لا والذي نَفسِي بيَدِه؛ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إليكَ مِن نَفسِكَ»، فقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآن واللهِ لأَنتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِن نَفسِي، فقالَ النبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «الآن يا عُمَرُ» رواه البخاري] اه. والاحتفال بمولدهِ صلى الله عليه وآله وسلم هو الاحتفاء به، والاحتفاء به صلى الله عليه وآله وسلم أمر مقطوع بمشروعيته؛ لأنه أصل الأصول ودعامتها الأولى، فقد علِمَ الله سبحانه وتعالى قدرَ نبيه، فعرَّف الوجودَ بأسره باسمه وبمبعثه وبمقامه وبمكانته، فالكون كله في سرور دائم وفرح مطلق بنور الله وفرجه ونعمته على العالمين وحُجَّته. مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف مِن أفضل الأعمال وأعظم القربات وأجلِّ الطاعات؛ لما فيه مِن التعبير عن الحب والفرح بمولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو أصلٌ مِن أصول الإيمان؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» أخرجه الشيخان. قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (1/ 48، ط. مكتبة الغرباء الأثرية): [محبَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن أصول الإيمان، وهي مقارِنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها اللهُ بها، وتَوَّعَدَ مَن قدَّم عليهما محبَّة شيء مِن الأمور المحبَّبة طبعًا مِن الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك] اه. كيفية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف المراد مِن الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف: تجمع الناس على ذكره، والإنشاد في مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وقراءة سيرته العطرة، والتَّأسي به، وإطعام الطعام على حبه، والتصدق على الفقراء، والتوسعة على الأهل والأقرباء، والبر بالجار والأصدقاء؛ إعلانًا لمحبته، وفرحًا بظهوره وشكرًا لله تعالى على منته بولادته، وليس ذلك على سبيل الحصر والاختزال، بل هو لبيان الواقع وسَوْقِ المثال. وقد نصَّ جمهور العلماء على أنه يُنْدَبُ تعظيم يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبراز الشكر له؛ وذلك بصيامه والإكثار مِن الذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن ونحو ذلك من مظاهر الشكر والتعبد لله احتفاءً بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما جرى عليه عمل أهل الأمصار. فحكى مفتي مكةالمكرمة قطب الدين النهروالي الحنفي [ت: 990ه] في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص: 196، ط. العامرة العثمانية) عملَ أهل مكة في زيارة موضع ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المولد المحمدي؛ فقال: [ويُزار في الليلة الثانية عشر من شهر ربيع الأول كل عام، فيجتمع الفقهاء والأعيان على نظام المسجد الحرام والقضاة الأربعة بمكة المشرفة بعد صلاة المغرب بالشموع الكثيرة والمفرغات والفوانيس والمشاعل، وجميع المشايخ مع طوائفهم بالأعلام الكثيرة، ويخرجون من المسجد إلى سوق الليل، ويمشون فيه إلى محل المولد الشريف بازدحام.. ويأتي الناس من البدو والحضر وأهل جدة وسكان الأودية في تلك الليلة، ويفرحون بها، وكيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يجعلونه عيدًا من أكبر أعيادهم] اه. ثم ردَّ على المنكرين على ذلك تحت دعوى أنَّ ذلك لا يصحّ شرعًا وأنه بدعة لم تُحْكَ عن السلف؛ بأنه: [بدعة حسنة، تتضمن تعظيم النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن، وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم؛ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي سأله عن صوم يوم الإثنين: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ»، فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي هو فيه، فينبغي أنْ يحترم غاية الاحترام؛ ليشغله بالعبادة والصيام والقيام، ويُظهِرَ السرور فيه بظهور سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام] اه. وقال الإمام ابن الحاج المالكي في "المدخل" (2/ 2-3، ط. دار التراث): [وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله تعالى به مِن العبادات التي تُفْعَل فيها؛ لِمَا قد عُلِمَ أنَّ الأمكنة والأزمنة لا تتشرف لذاتها، وإنما يحصل لها التشريف بما خُصَّتْ به مِن المعاني، فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى ما خص الله تعالى به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أنَّ صومَ هذا اليوم فيه فضلٌ عظيم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم وُلد فيه، فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أنْ يُكَرَّمَ ويُعَظَّمَ ويُحْتَرَمَ الاحترام اللائق به؛ وذلك بالاتباع له صلى الله عليه وآله وسلم في كونه عليه الصلاة والسلام كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات] اه. الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيت والأولياء هو ما عليه عمل السلف الصالح منذ القرن الرابع قد دَرَجَ سلفُنا الصالح منذ القرن الرابع والخامس على الاحتفالِ بمولد الرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلامه بإحياء ليلة المولد بشتى أنواع القربات من إطعام الطعام، وتلاوة القرآن، والأذكار، وإنشاد الأشعار والمدائح في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ من المؤرخين مثل الحافظَين ابن الجوزي وابن كثير، والحافظ ابن دِحية الأندلسي، والحافظ ابن حجر، وخاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطي رحمهم الله تعالى. ونَصَّ جماهيرُ العلماء سلفًا وخلفًا على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، بل ألَّف في استحباب ذلك جماعةٌ من العلماء والفقهاء، بَيَّنُوا بالأدلة الصحيحة استحبابَ هذا العمل؛ بحيث لا يبقى لمَن له عقل وفهم وفكر سليم إنكارُ ما سلكه سلفنا الصالح من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف. وقد أطال ابن الحاج في "المدخل" في ذكر المزايا المتعلقة بهذا الاحتفال، وذكر في ذلك كلامًا مفيدًا يشرح صدور المؤمنين، مع العلم أن ابن الحاج وضع كتابه "المدخل" في ذم البدع المحدثة التي لا يتناولها دليل شرعي، وللإمَام السيوطِي في ذلك رسالة مستقلة سماها "حُسن المَقصِد في عمل المولد". والاحتفالُ في لغة العرب: من حَفَلَ اللبنُ في الضَّرع يَحفِل حَفلا وحُفُلا وتَحَفَّل واحتَفَلَ: اجتمع، وحَفَل القومُ من باب ضرب، واحتَفَلوا: اجتمعوا واحتشدوا. وعنده حَفلٌ من الناس: أي جَمع، وهو في الأصل مصدر، ومَحفِلُ القومِ ومُحتَفَلُهم: مجتمعهم، وحَفَلهُ: جلاه، فَتحَفَّلَ واحتَفَلَ، وحَفَل كذا: بالى به، ويقال: لا تحفل به. وأما الاحتفال بالمعنى المقصود في هذا المقام، فهو لا يختلف كثيرًا عن معناه في اللغة؛ إذ المراد من الاحتفال بِذكرى المولد النبوي هو تجمُع الناس على الذكر، والإنشاد في مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وآله وسلم وإطعام الطعام صدقة لله، إعلانًا لمحبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإعلانًا لفرحنا بيوم مجيئه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم. ويَدخُل في ذلك ما اعتاده الناس من شراء الحَلوى والتهادي بها في المولد الشريف؛ فإن التهادي أمر مطلوب في ذاته، لم يَقُمْ دليلٌ على المنع منه أو إباحَتِه في وقت دون وقت، فإذا انضمت إلى ذلك المقاصد الصالحة الأخُرى كَإدْخَالِ السُّرورِ على أهلِ البيت وصِلة الأرحامِ فإنه يُصبح مستحبًّا مندوبًا إليه، فإذا كان ذلك تعبيرًا عن الفرح بمولدِ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كان أشَدَّ مشروعيةً وندبًا واستحبابًا؛ لأنَّ للوسائل أحكام المقاصد، والقول بتحريمه أو المنع منه حينئذ ضرب من التنطع المذموم. الرد على من ينكر الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيت والأولياء مما يلتبس على بعضهم دعوى خُلو القرون الأولى الفاضلة من أمثال هذهِ الاحتفالات، ولو سُلِّم هذا -لعمر الحق- فإنه لا يكون مسوغًا لمنعها؛ لأنه لا يشك عاقل في فرحهم رضي الله تعالى عنهم به صلى الله عليه وآله وسلم ولكن للفرح أساليب شتى في التعبير عنه وإظهاره، ولاحرج في الأسَاليب والمسالك؛ لأنَّها ليست عبادة في ذاتها، فالفرح به صلى الله عليه وآله وسلم عبادة وأي عبادة، والتعبيرُ عن هذا الفرح إنما هو وسيلةٌ مباحةُ، لكل فيها وجهةٌ هو موليها. وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على احتفال الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع إقراره لذلك وإِذْنه فيه؛ فعن بُرَيدة الأسلمي رضي الله عنه قال: خرج رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه، فلمَّا انصرف جاءت جاريةٌ سوداء فقالت: يا رسول الله، إنِّي كنت نذَرتُ إن رَدَّكَ اللهُ سَالِمًا أَن أَضرِبَ بينَ يَدَيكَ بالدُّفِّ وأَتَغَنَّى، فقالَ لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إن كُنتِ نَذَرتِ فاضرِبِي، وإلا فلا» رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. فإذا كان الضرب بالدُّفِّ إعلانًا للفرح بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو أمرًا مشروعًا أقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بالوفاء بنذره، فإنَّ إعلان الفرحِ بقدومه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدنيا بالدفِّ أو غيره من مظاهر الفرحِ المباحة في نفسها أكثر مشروعية وأعظم استحبابًا. وإذا كان الله تعالى يخفف عن أبي لهب وهو مَن هو كُفرًا وعِنادًا ومحاربةً لله ورسولهِ بفرحه بمولِد خير البشر بأن يَجعلَه يشرب من نُقْرَةٍ مِن كَفِّه كل يوم إثنين في النار؛ لأنه أعتق مولاته ثُوَيبة لَمَّا بَشَّرَتْه بميلادهِ الشريف صلى الله عليه وآله وسلم،كما جاء في صحيح البخاري، فما بالكم بجزاء الرب لفرح المؤمنين بميلاده وسطوع نوره على الكون. وقد سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنَفسِهِ الشريفةِ جنس الشُكرِ لله تعالى على مِيلاده الشريف، فقد صح أنَّه كان يَصومُ يومَ الإثنينِ ويقول: «ذلكَ يَومٌ وُلِدتُ فيه» رواه مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، فهو شكر مِنه عليه الصلاة والسلام على مِنَّةِ الله تعالى عليه وعلى الأمة بذاتِه الشريفة، فالأَولى بالأُمَّة الائتساءُ به صلى الله عليه وآله وسلم بشكر الله تعالى على مِنَّتِهِ ومِنْحتهِ المصطفوية بكل أنواع الشكر، ومِنها الإطْعام والمديح والاجتماع للذكر والصيام والقيام وغير ذلك، وكل ماعُونٍ يَنضَحُ بما فيه. وقد نقل الصالحيُّ في ديِوانهِ الحافل في السيرة النبوية "سُبُل الهُدى والرشاد في هَدي خيرِ العِباد" عن بعضِ صالحي زمانه: "أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه، فَشكى إليه أن بعض مَن ينتسب إلى العلم يقول ببدْعِيَّةِ الاحتفال بالمولد الشريف، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مَن فرِح بنا فَرِحنا به. وكذلك الحكم في الاحتفال بموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين وإحياء ذكراهم بأنواع القُرَب المختلفة؛ فإن ذلك أمر مرغَّب فيه شرعًا؛ لما في ذلك من التأسِّي بهم والسير على طريقهم، وقد ورد الأمر الشرعي بتذكُّر الأنبياء والصالحين فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [مريم: 41]، ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى﴾ [مريم: 51]، وهذا الأمرَ لا يختص بالأنبياء، بل يَدخُل فيه الصالحون أيضًا؛ حيث يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ [مريم: 16]؛ إذ مِن المقرر عند المحققين أنَّ مريم عليها السلام صِدِّيقةٌ لا نبية، كما ورد الأمر الشرعي أيضًا بالتذكير بأيام الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]، ومِن أيام الله تعالى أيامُ الميلاد وأيامُ النصر؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصومُ يومَ الإثنينِ من كل أسبوع شكرًا لله تعالى على نعمة إيجاده واحتفالا بيوم ميلاده كما سبق في حديث أبي قتادة الأنصاري في صحيح مسلم، كما كان يصومُ يومَ عاشوراء ويأمر بصيامه شكرًا لله تعالى وفرحًا واحتفالا بِنجاةِ سيدنا موسى عليه السلام. وقد كرم الله تعالى يوم الولادة في كتابه وعلى لِسان أنبيائه فقال سبحانه: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ [مريم: 15]، وقال جل شأنه على لسان السيد المسيح عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ﴾ [مريم: 33]، وذلك أن يوم الميلاد حصلت فيه نعمةُ الإيجاد، وهي سبب لحصول كل نعمة تنال الإنسان بعد ذلك، فكان تذكره والتذكير به بابًا لشُكر نعم الله تعالى على الناس؛ فلا بأس مِن تحديد أيام معينة يُحتفل فيها بذكرى أولياء الله الصالحين، ولا يقدح في هذه المشروعية ما قد يحدث في بعض هذه المواسم من أمورٍ محرمةٍ؛ بل تُقام هذه المناسبات مع إنكار ما قد يكتنفها من منكرات، ويُنبَّهُ أصحابها إلى مخالفةِ هذه المُنكراتِ للمقصد الأساس الذي أقيمت من أجله هذه المناسبات الشريفة. إطلاق لفظ العيد على المولد النبوي الشريف الأمر الذي لا يتردد فيه شاكٌّ، ولا يغفله عاقل: أنه لا نعمة تستحق أنْ يسعد بها المسلم ويهنأ حتى يَعُدَّ يوم حدوثها عيدًا، كنعمة ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الوجود؛ إذ هو النور لكلِّ الوجود، والوسيلة العظمى لكلِّ موجود، ورحمة الله للعالمين؛ فلولاه ما سعد إنسان؛ إذ كيف يسعد دون طوق النجاة، فالحقيقة أنَّ يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم عيدٌ للإسلام، بل هو "أعظم مِن كل عيد، وهو حقيقٌ بذلك وجدير"؛ كما قال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي في "كوثر المعاني الدراري" (1/ 72، ط. مؤسسة الرسالة)، وأنَّ "أفضل الليالي على الإطلاق: ليلة المولد الشريف؛ لما ترتب على ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم فيها من النفع العميم، والخير العظيم"؛ كما قال العلَّامة الباجوري في "حاشيته على شرح العلامة الغزِّي على متن أبي شجاع" (1/ 404، ط. دار الكتب العلمية)، بل هو أَوْلى مِن العيدين وليلتهما؛ لأنَّ شرفهما راجع لزمانهما، بينما مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم "لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان هو الذي يتشرف به كالأماكن"؛ كما قال شهاب الدين القسطلاني في "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (1/ 86، ط. المكتبة التوفيقية)، ونجم الدين الغيطي [ت: 982ه] في "بهجة السامعين" (ص: 102، ط. مجلة الأزهر الشريف)، وإذا كان الناس قد اعتادوا أنْ يظهروا فرحتهم، واحتفالهم في أيام الأعياد بمظاهر مِن إقامتهم الولائم واجتماعهم على الطعام باعتبار "أنَّ العيد موضوعٌ للراحات، وَبسط النُّفوس والأكل وَالشرب"؛ كما قال بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (6/ 274)؛ علاوة على أنَّ "اتخاذ الوليمة، وإطعام الطعام مستحب في كل وقت؛ فكيف إذا انضم إلى ذلك الفرح والسرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف"؛ كما ذكره العلَّامة الحسن بن عمر بن الحاج إدريس في "شفاء السقيم بمولد النبي الكريم" المطبوع ضمن "مجموع لطيف أنسي" (ص: 136، ط. دار الكتب العلمية) نقلًا عن الإمام أبي زرعة العراقي؛ فإنَّ "إظهار السرور في العيد مِن شعار الدين"؛ كما قال العلامة أبو سليمان الخطابي في "أعلام الحديث" (1/ 595، ط. جامعة أم القرى)، وإذا اعتادوا أنْ يصنعوا فيها الحلوى، ويتهادونها بهجةً وتوسعةً وفرحًا؛ فإنَّ عيد مولد النبي الأكرم، ذي الجناب الأعظم، والمقام الأفخم صلى الله عليه وآله وسلم أَوْلى بذلك؛ فقد "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ" متفق عليه مِن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإذا زادوا على كلِّ ذلك بذل "الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور؛ فإنَّ ذلك مع ما فيه مِن الإحسان إلى الفقراء مشعرٌ بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله"؛ كما قال الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص: 23، ط. دار الهدى)، "وكيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يجعلونه عيدًا مِن أكبر أعيادهم"؛ كما قال مفتي مكةالمكرمة قطب الدين النهروالي في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص: 196، ط. العامرة العثمانية)، "فرحم اللهُ امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا"؛ كما قال شهاب الدين القسطلاني في "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (1/ 90). كما أنَّ كل مسلم يدرك تمام الإدراك أنه لولا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان لعيد الفطر سرور، وما كان للأضحى حلول، فبه كانت الأعياد أعيادًا، ولأجله شرعت؛ لأنه صاحب الشريعة، وسيد الخلق والخليقة، ولذا فإنَّ السعادة بمولده الشريف تربو على السعادة بكل عيد، فَصَحَّ عند كل ذي لُبٍّ حكيم، وقلبٍ بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هائمٍ ومنيرٍ، أنْ يَرْبُوَ مولدُه عندَه على كل عيد؛ إذ هو للأعياد ذاتها عيدٌ؛ فلا يَصِحُّ أنْ تُضاهِيَه، ولا يمكن أنْ توازِيَه، بل هي مستفادة منه، ونابعة عنه؛ فاستحق أن يكون سيدها، وكان أحقَّ بما يُفعل فيها مِن "إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلباسٍ فاخرِ الثياب، وركوبٍ فَارِهِ الدواب"؛ كما قال العلَّامة ابن عباد في "رسائله الكبرى" فيما نقله عنه شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 407، ط. دار الفكر). ومِن أدلة كون هذا اليوم عيدًا: أنَّ الزمان والمكان لا يشرفان لذاتهما، وإنما يشرفان بشرف ما اتصل بهما، ولذا كان مِن أسباب كون يوم الجمعة عيدًا: أنَّ آدم عليه السلام ولد فيه؛ فدل ذلك على أنَّ يوم ميلاده صلى الله عليه وآله وسلم عيد، بل هو أفضل الأعياد؛ لأنه أفضل الخلق أجمعين، وسيد الأنبياء والمرسلين، بل فَضْلُهُ على سائر العالمين. قال العلَّامة ابن الحاج في "المدخل" (2/ 26-29، ط. دار التراث): [(فصل) فإنْ قال قائلٌ: ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خُصَّ مولده الكريم بشهر ربيع الأول، وبيوم الإثنين منه على الصحيح والمشهور عند أكثر العلماء، ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفيه ليلة القدر، واختص بفضائل عديدة، ولا في الأشهر الحرم التي جعل الله لها الحرمة يوم خلق السماوات والأرض، ولا في ليلة النصف من شعبان، ولا في يوم الجمعة ولا في ليلتها؟ فالجواب من أربعة أوجه.. الوجه الرابع: شاء الحكيم سبحانه وتعالى أنه عليه الصلاة والسلام تتشرف به الأزمنة والأماكن، لا هو يتشرف بها، بل يحصل للزمان والمكان الذي يباشره عليه الصلاة والسلام الفضيلةُ العظمى، والمزيةُ على ما سواه من جنسه إلا ما استثني من ذلك لأجل زيادة الأعمال فيها وغير ذلك؛ فلو ولد صلى الله عليه وآله وسلم في الأوقات المتقدم ذكرها لكان ظاهره يوهم أنه يتشرف بها، فجعل الحكيمُ جَلَّ جَلَالُهُ مولدَهُ صلى الله عليه وآله وسلم في غيرها؛ ليظهر عظيم عنايته سبحانه وتعالى به وكرامته عليه] اه. نصوص الفقهاء والمؤرخين في إطلاق لفظ العيد على المولد النبوي الشريف قد وردت تسمية المولد النبوي الشريف ب "عيد المولد" في نصوص الفقهاء والمؤرخين، ومنهم: - سيدي الحاج أبو العباس أحمد بن عاشر السلاوي المالكي [ت: 765ه]، والعلَّامة ابن عباد [ت: 792ه]؛ قال شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 407) نقلًا عن الإمام ابن عبَّاد في "رسائله الكبرى": [وأما المولد: فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكل ما يُفعل فيه ما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلبسٍ فاخر الثياب، وركوبٍ فاره الدواب: أمرٌ مباحٌ لا يُنكَر على أحدٍ؛ قياسًا على غيره من أوقات الفرح، والحكم بكون هذه الأشياء بدعةً في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود، وارتفع فيه علم الشهود، وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان: أمرٌ مُستَثقَلٌ تَشمئز منه القلوب السليمة، وتدفعه الآراء المستقيمة] اه. - وتقي الدين أبو الطيب المكي الحسيني [ت: 832ه] في "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" (2/ 363، ط. دار الكتب العلمية)؛ حيث قال: [خرج الشريف إدريس ليلة عيد المولد] اه. - والحافظ الحُجة أبو عبد الله القوري [ت: 872ه] وغيرُه؛ وذلك فيما حكاه الشيخ زروق [ت: 899ه] في "شرحه على المقدمة القرطبية" (ص: 241، ط. دار ابن حزم). - وشهاب الدين القسطلاني [ت: 923ه] في "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (ص: 90)؛ إذ يقول: [فرحم اللهُ امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا] اه. - ومفتي مكةالمكرمة قطب الدين النهروالي [ت: 990ه] في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص: 196)؛ حيث يقول: [وكيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يجعلونه عيدًا من أكبر أعيادهم] اه. - والعلَّامة عبد الملك بن حسين العصامي المكي [ت: 1111ه] في "سمط النجوم العوالي" (4/ 496، ط. دار الكتب العلمية)؛ بقوله: [ساروا إلى مصر فدخلوها ليلة عيد المولد] اه. -وقال العلَّامة محمد بن سيدي جعفر الكتاني [ت: 1345ه] في "اليُمن والإسعاد بمولد خير العباد" (ص: 16، ط. المكتبة الشرقية): [ثم ليلتا المولد الشريف المكرم والمعراج النبوي المعظم: يظهر أنهما خير ليالي الدنيا بلا تردد ولا ثنيا؛ لما ظهر ووجد فيهما مما لم يكن ظهوره ولا وجوده في غيرهما، وكذا اليوم الذي يسفران عنه: أفضل الأيام كما ينبغي الجزم به في هذا المقام، وإذا كانا هكذا؛ فهما جديران باتخاذ أمثالهما من بعدهما عيدًا من الأعياد، وموسمًا من مواسم الخير والاجتهاد؛ فتُحترم وتُعظَّم، ويُتلى فيها كتاب الله المُعَظَّم، ويُعمَل في محجتها ما يدل على الفرح والسرور بفضيلتها، والشكر له تعالى ما أنعم به في نظيرتها] اه. - وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي [ت: 1354ه] في "كوثر المعاني الدراري" (1/ 72) مؤكدًا هذه التسمية: [ما زال المسلمون يُعظِّمون المولد الشريف، جاعلين له عيدًا أعظم مِن كل عيد، وهو حقيقٌ بذلك وجدير] اه. مذهب بعض الفقهاء في كراهة صيام يوم المولد النبوي الشريف إلحاقًا له بالعيد لأجل تحقق يوم المولد النبوي بمعاني العيد وحقيقته، ذهب متأخرو المالكية إلى كراهة صومه؛ إلحاقًا له بالعيد في الجملة. قال شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 407) نقلًا عن ابن عبَّاد في "رسائله الكبرى": [ولقد كنتُ فيما خَلَا مِن الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله، وجماعةً من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعامًا مختلفًا ليأكلوه هنالك، فلما قدموه لذلك، أرادوا مني مشاركتهم في الأكل، وكنت إذ ذاك صائمًا، فقلت لهم: إنني صائم، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، يستقبح في مثله الصيام؛ بمنزلة يوم العيد، فتأملت كلامه فوجدتُه حقًّا، وكأنني كنت نائمًا فأيقظني] اه. وقال الشيخ زروق [ت: 899ه] في "شرحه على المقدمة القرطبية" (ص: 241، ط. دار ابن حزم): [وصيام يوم المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صح ورعه وعلمه قائلًا: "إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألَّا يصام فيه"، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله يذكر ذلك كثيرًا ويستحسنه] اه، ونقله عنه شمس الدين الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 406). وقال الشيخ عليش [ت: 1299ه] في "منح الجليل" (2/ 123، ط. دار الفكر): [ويكره صوم يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلحاقًا له بالعيد في الجملة] اه. بل قد حكى الشيخ ابن مزُّور في "شفاء السقيم بمولد النبي الكريم" المطبوع ضمن "مجموع لطيف أنسي في صيغ المولد النبوي القدسي" (ص: 140) انعقادَ الإجماع بعد القرون الثلاثة الأولى على اعتبار يوم المولد النبوي الشريف "عيدًا"، مرجحًا القول بكراهة الصوم فيه لهذا الاعتبار، وحاملًا القول الآخر باستحبابه على ما قبل ذلك؛ حيث ساق شعرًا من "همزية" ابن زكري [ت: 1144ه]؛ جاء فيه: يَوْمُ مَوْلِدِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْيَا دِ فَضْلُهُ فِي الوُضُوحِ ضُحَاْءُ وَلِلَيْلَتِهِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ عُلُوٌّ بِقُرْبِهِ وَزَكَاءُ ثم قال (ص: 140): [ولا يخفى عليك أنَّ الأظهر: كراهة صيام يوم المولد؛ لوضوح علته المشار لها في كلام العارف ابن عباد ونقلها الشيخ زروق، وأما ما ذكره الإمامان الحافظ ابن حجر العسقلاني والحافظ ابن حجر الهيتمي مِن تعليل استحسان صيامه بأنه مِن مقابلة النعم في أوقاتِ تجددها بالشكر قياسًا على يوم عاشوراء: فغير ظاهر؛ لأنَّ شرط القياس المساواة كما تقرر في الأصول، فإنَّ يوم عاشوراء ورد عن الشرع الترغيب في صيامه بالخصوص وليس يوم عيد، وإنما هو موسم مِن المواسم الفاضلة المرغّب في صيامها، وأما يوم المولد: فهو وإن كان الأصل إباحة صيامه، بل أفضليته؛ لكونه من الأيام الفاضلة، لكن لما انعقد الإجماع مِن بعد القرون الثلاثة على اتخاذه عيدًا من أعياد المسلمين، وإجماعهم حجة، ولا تجتمع الأمة على ضلالة، فالأولى قياسه على سائر الأعياد في الجملة، فهو من باب تعارض المانع والمقتضي؛ فالمقدم: المانع، وإنما لم يحرم صيامه كغيره من الأعياد؛ لأنه لم يكن عيدًا في زمن النبوة ولا في القرون الثلاثة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالخيرية، فلذا كره فقط نظرًا للإجماع المذكور، واتخاذه عيدًا وإنْ كان بدعة لغوية؛ لكنَّ البدعة اللغوية تعرض لها الأحكام الخمسة كما هو مقرر، وأما تعليلهما استحسان الصيام بأنه مِن مقابلة النعم في أوقاتِ تجددها بالشكر؛ فنقول: إنَّ ذلك ليس على إطلاقه، بل محله ما لم يمنع منه مانع كما علمته هنا، والله تعالى أعلم] اه. فأفاد بذلك الجمع بين القولين؛ باختلاف الزمانين، والجمع بينهما هو الأَوْلى؛ لما تقرر في قواعد الشرع أنَّ "الْجَمْعَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ"؛ كما في "إرشاد الفحول" للإمام الشوكاني (1/ 401، ط. دار الكتاب العربي)، وأنَّ "إِعْمَالَ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 128، ط. دار الكتب العلمية)؛ فإذا ما انعقد الإجماع على اعتبار يوم المولد النبوي الشريف "عيدًا"، بل هو سيد الأعياد؛ كُره الصيامُ فيه، وهذا هو المناسب لمقام الفرح المعتبر شرعًا؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 57-58]. قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (17/ 269، ط. دار إحياء التراث العربي): [فالحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى، وهو إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة وهي إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين وهي النبوة، فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره ولا تقديم ما تأخر ذكره، ولما نبه الله تعالى في هذه الآية على هذه الأسرار العالية الإلهية قال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، والمقصود منه: الإشارة إلى ما قرره حكماء الإسلام من أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية] اه. أقرأ أيضاً | مفاجأة سارة لموظفي الدولة في سبتمبر.. 9 أيام إجازة