كانت الطفلة الصغيرة تُسرع مهرولة بفستان زفافها الأبيض.. والذي من المفترض أن يكون الأمنية الجميلة لأي بنت.. ولكنه كان لها كالكفن الذي سيدفن طفولتها. تهرول هاربة من مصير تحتّم عليها ملاقاته وهي لازالت صاحبة الثلاثة عشر عاما كانت تهرب دون أن تنظر إلى الخلف فهي لا تعلم ما ينتظرها إذا توقفت. وصلت لمحطة القطار في بلدتهم وهي تنظر حولها مرتعدة، لا تعلم ماذا عليها أن تفعل، ولكن يجب أن تبتعد، مهما كان الثمن، لم يكن معها أية نقود، ولا حتى ثمن تذكرة القطار.. اندست بين الناس، اعتقدوا أن معها من يتولى أمرها، جلست أمام سيدة في العقد الرابع من عمرها ومعها ابنها والذي كان يكبر الصغيرة ببضع سنوات. ظنت السيدة أن معها من سيأتي معها، ولكن تحرك القطار، لازالت الطفلة وحيدة بفستانها الذي لا يناسب سنها إطلاقاً، لم تجد السيدة أحدا مع الفتاة، فانتابها الفضول وسألتها: أنتِ راكبة لوحدك يا شاطرة؟ كانت تنظر من شباك القطار شاردة في مصير مجهول، قطع سؤال السيدة أفكارها، تلك السيدة التي يبدو عليها الطيبة ولكن الفتاة ما زالت ترتعد من داخلها، لم تجد ما تتفوه به، فأومأت لها بالموافقة _ أزاي طيب ورايحه فين لوحدك كده شكلك صغيرة؟ وللمرة الثانية لم تجد ما تتفوه به، فهي حتى لا تعلم لأي وجهة يتجه القطار _ معرفش بس لازم أمشى من هنا ؟ نظرت للنافذة مرة آخرى، تملأ الدموع عينيها البريئة أشفقت عليها السيدة واعتقدت أن خلفها قصة مؤلمة لذا لم ترد أن تتركها _ انتِ اسمك ايه طيب؟ _ أسمى آيات _ اسمك جميل يا آيات أنا خالتك أم أحمد وده أحمد ابني قالتها وهي تشير لذلك الصبي بجانبها والذي يتابع الحديث بصمت _ طب احيكلى بتعيطى ليه يمكن أقدر أساعدك، هتروحى فين، ليكى حد فى اسكندرية؟ _ هو القطر رايح إسكندرية ؟ _ شكل حكايتك حكاية يلا احكيلى اطمأنت آيات للسيدة وقالت لها: « أنا من قرية هنا، كنت بلعب مع العيال أصحابى في الشارع، بس فجأة لقيتهم بيقولوا أنى كبرت ومينفعش ألعب معاهم عشان أنا دلوقتى متجوزة وبقيت كبيرة وكمان مينفعش أروح المدرسة، عرفت منهم إن بابا كتب كتابي على راجل كبير من عندنا ولبسوني الفستان ده اليوم وقالوا إني لازم أروح معاه عشان خلاص بقى جوزى وأصلا هو كبير أوى وأنا بخاف منه ومش عايزة أروح معاه عايزة ألعب مع اصحابي» _ طب مقولتيش لماما ليه ؟ _ قلت لها: قلت ولكنهم ضربونى وقالوا إني لازم اسمع الكلام، انشغلوا بترتيبات الفرح، ووجدتها فرصة فهربت منهم ولم يراني أحد وجريت معرفش رايحه فين لقيت نفسي في القطار ده ومش عارفه رايح فين، انا بس عايزه اهرب منهم . نظرت لها السيدة بشفقة فسنها لا يتناسب مع تلك المأساة التي تقصها عليها مر الوقت ووصل القطار للإسكندرية وعندها كانت المعضلة الأكبر، أين ستذهب تلك الفتاة؟ وقفت تنظر حولها مذعورة، من تلك المدينة الكبيرة التي تحوي امواجا من البشر، ماذا ستفعل بمفردها بين هذا هؤلاء؟ وكأن السيدة استمعت لما تقوله الفتاة بداخلها.. _ تعالى معايا يا بنتى بصراحة مش قادرة اسيبك في الشارع، تعالى وهنشوف حل. نظرت الفتاة ليدها الممتدة لها بتردد ولكن ليس لديها حل آخر.. ذهبت معها.. قصت السيدة حكاية حياة على زوجها.. طلب منها أن تتريث.. ذهبت السيدة وزوجها للبحث عن أهل الفتاة في قريتها.. علموا من أهل القرية أن أهل الفتاة عزموا على قتلها، فعادوا أدراجهم. عزما أبو أحمد وأم أحمد على تربية الفتاة المظلومة مع ابنهما. كبرت الفتاة ولم تعد تلك الصغيرة المظلومة، فعائلتها الجديدة زرعوا بها شخصيتها القوية وأحمد الذي كان بمثابة أخيها الأكبر كان الداعم الأساسي لها. قويت شخصية الفتاة اتخذت قرارها بالعودة لأهلها، دبت أرجلها بنفس تلك البلدة التي تدنس براءة الأطفال، تحت مسمى سترها بالزواج، وهي لازالت طفلة بريئة لا تجيد سوى اللعب مع الأطفال والذهاب للمدرسة. عادت آيات شامخة الرأس، تنظر لبنات القرية بشفقة كبيرة، ما إن وصلت بيتها حتى رأت والدها وقد غلبه كبر السن ودار عليه الزمن، حتى أنه لم يتعرف عليها : : فاكرنى يا ابا أنا آيات اللى كنتوا ناويين تدفنوها بالحيا قبل ما تعرف يعنى ايه دنيا : آيات بتى لساتك عايشة؟ غلبتها دموعها وهى ترى والدها بهذا الضعف الشديد : متعيطيش يا بتى أنا عارف أنى كنت غلطان، كويس إنك مشيتى يا آيات أختك رباب ماتت بسبب غلطتى دى يا بتى بعد ما جوزتها وهى في سنك رجعتلى جثة والله كنت عايز أحافظ عليكوا . انهمرت دموعها وهي تتذكر أختها الصغيرة وتسمع مصيرها المأسوى : طالما طلعتى عايشة لازم اطلقك من الراجل اللى كتبت عليكي له يا بتى وارجعى مكان ما جيتي وعيشى حياتك. تمت إجراءات الطلاق، كما علمت بوفاة والدتها بعد أختها من حزنها علي بناتها الاثنين، عادت إلى أسرتها الجديدة بنفس القطار ومعها أحمد أخاها الأكبر وهى شاردة الذهن مما عرفته، وهو ينظر إليها محاولا أن ينتشلها من ذلك الفكر الحزين : آيات .. أعرف فيلم الآنسة مامى لكن أول مرة اشوف الآنسة المطلقة نظرا الاثنين لبعضهما وانفجرا بالضحك.