مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    عيار 21 يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل بالصاغة بعد آخر انخفاض    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    توقعات برفع سعر الفائدة خلال اجتماع البنك المركزي المقبل    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    فلسطين.. المدفعية الإسرائيلية تقصف الشجاعية والزيتون شرقي غزة    الزمالك: هناك مكافآت للاعبين حال الفوز على دريمز.. ومجلس الإدارة يستطيع حل أزمة القيد    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    هاني حتحوت يكشف كواليس أزمة خالد بوطيب وإيقاف قيد الزمالك    إعلامي يفجر مفاجأة بشأن رحيل نجم الزمالك    مصر تسيطر على نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية (PSA 2024) للرجال والسيدات    «عودة قوية للشتاء» .. بيان مهم بشأن الطقس اليوم الجمعة وخريطة سقوط الأمطار    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    فيلم «النداء الأخير- Last C all» يختتم حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية القصير الدورة 10    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    ارتفاع سعر الفراخ البيضاء وتراجع كرتونة البيض (أحمر وأبيض) بالأسواق الجمعة 26 أبريل 2024    هل المقاطعة هي الحل؟ رئيس شعبة الأسماك في بورسعيد يرد    كل سنة وكل مصري بخير.. حمدي رزق يهنئ المصريين بمناسبة عيد تحرير سيناء    أحمد أبو مسلم: كولر تفكيره غريب وهذا تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    مصدر نهر النيل.. أمطار أعلى من معدلاتها على بحيرة فيكتوريا    بقيمة 6 مليارات .. حزمة أسلحة أمريكية جديدة لأوكرانيا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على جدول مواعيد عمل محاكم مجلس الدولة    عبقرينو اتحبس | استولى على 23 حساب فيس بوك.. تفاصيل    حركة "غير ملتزم" تنضم إلى المحتجين على حرب غزة في جامعة ميشيجان    حلقات ذكر وإطعام، المئات من أتباع الطرق الصوفية يحتفلون برجبية السيد البدوي بطنطا (فيديو)    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    خالد جادالله: الأهلي سيتخطى عقبة مازيمبي واستبعاد طاهر منطقي.. وكريستو هو المسؤول عن استبعاده الدائم    السعودية توجه نداء عاجلا للراغبين في أداء فريضة الحج.. ماذا قالت؟    الدفاع المدني في غزة: الاحتلال دفن جرحى أحياء في المقابر الجماعية في مستشفى ناصر بخان يونس    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    سرقة أعضاء Live مقابل 5 ملايين جنيه.. تفاصيل مرعبة في جريمة قتل «طفل شبرا الخيمة»    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    رئيس الشيوخ العربية: السيسي نجح في تغيير جذري لسيناء بالتنمية الشاملة وانتهاء العزلة    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    ليلى أحمد زاهر: مسلسل أعلى نسبة مشاهدة نقطة تحوّل في بداية مشواري.. وتلقيت رسائل تهديد    لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع ب 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    مخرج «السرب»: «أحمد السقا قعد مع ضباط علشان يتعلم مسكة السلاح»    "الأهلي ضد مازيمبي ودوريات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    سفير تركيا بالقاهرة يهنئ مصر بذكرى تحرير سيناء    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    مجلس جامعة الوادي الجديد يعتمد تعديل بعض اللوائح ويدرس الاستعداد لامتحانات الكليات    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قناطر إدفينا | لحظة العناق بين دفء الجنوب وبرودة الشَّمال
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 07 - 05 - 2022


بقلم : سامى أبو بدر
عندها يَلتقى البَحرانِ، هذا عَذبٌ فُراتٌ وهذا مِلحٌ أُجاجٌ، لا يَطغَى أَحدُهما على الآخرِ، ولا يَختلطان إِلا بإِذنِها، تَفصلُ بينَهما بجَسدِها الضَّخمِ، مَهيبِ البُنيانِ، بَديعِ الصَّنعةِ، استِثنائىّ الهندَسةِ، الباعثِ فى المكان جَمالاً وجلالاً مُطرَّزَينِ بالوَقارِ والبَهاءِ، وبَهجةً تَنشرُ فى النُّفوسِ أُنسًا وعَجبًا، هُنالكَ يَستريحُ النيلُ على صدرِها الحَاني؛ لِيرسمَ مَشهدًا لِلعِناقِ بينَ دِفءِ الجنوبِ وبُرودةِ الشَّمالِ، ولِيَهدأَ بعد رحلةٍ طويلةٍ قَطعَ فيها مَسافةَ 6650 كم عابرًا خِلالَها إِحدَى عَشرةَ دولةً أَفريقيةً مُتجهًا نحو الشَّمالِ، فى مَسارٍ هو الأطولُ لِنهرٍ فى الأرضِ؛ فأَنبتَ ماؤُهُ العَذبُ زُروعًا مُختلِفًا أَلوانُها، وأَحيَا أُممًا وأَنشأَ مُدنًا وقُرى، ونهضَتْ على ضَفَّتيهِ حَضاراتٌ لا يَزالُ التاريخُ حائرًا فى تَفسيرِ شواهدِها إِلى اليومِ.
قناطرُ إِدفِينَا، ذلكَ السَّدُّ المائىُّ العِملاقُ الرابضُ أَقصَى شمالىّ مِصرَ فى عرضِ النيلِ (فرعِ رَشيدٍ/ الحدِّ الغربيِّ لِدِلتا مِصر)، بين مدينةِ مُطُوبِسَ، وقريةِ إِدفِينَا التى مَنحتهُ اسمَها، جنوبَ نقطةِ تَماسِ مَجرَى النهرِ مع البحرِ المتوسطِ بحوالَى 30كم، وجنوبَ مدينةِ رشيدٍ التاريخيةِ ب 20كم، وشرقَ كُلٍّ من مدينةِ الإسكندريةِ بحوالَى 60كم، وبُحيرةِ إِدكُو ب 30كم، وجنوبَ غربِ بحيرةِ البُرلُّسِ ب 12كم.
بقيَت القناطرُ لِسَبعةِ عقودٍ مَضتْ مُرابطةً على ثَغرِها، وعيونُها يقظةٌ على الداخلِ أَلَّا يتجاوزَها ماءُ النيلِ إلى مَصبِّهِ قبلَ أن يَسقيَ الحرثَ والنسلَ، اُؤتُمِنتْ فلم تَخُنْ، وحفظَت فلَم تُفرِّط مُنذ افتَتحها للعملِ رسميًّا رئيسُ وزراءِ مِصرَ مُصطفى النَّحاس باشَا فى السابعِ والعشرينَ من أُكتوبر عامِ 1951م، قبلَ نهايةِ العهدِ الملكيِّ بأقلّ من عامٍ، وبعدَ مُضِى ما يقرُبُ من ثلاثةِ أَعوامٍ على الشُّروعِ فى إِنشائِها.
كانت فكرةُ إِنشائِها وليدةَ حاجةٍ مُلحَّةٍ، بادرَ باقتراحِها على الحكومةِ المهندسُ المصرى أَحمد فهمى، حينَ ارتفعَ مَنسوبُ فيضانِ النيلِ عام 1945م عمَّا كان مُعتادًا، فدَمَّرَ سَدَّا تُرابيَّا أَقامَه الأَهالِى فى مَجرَى النهرِ مُقابلَ قريةِ دِيبِى (شمالَ القناطرِ بحَوالَى كيلومتر واحدٍ)، وجرَفهُ إلى مِياهِ البحرِ المتوسطِ، وكانت السُّلطاتُ قد جَمَعتِ الأهالى من القُرى المجاورةِ بنظامِ السُّخرةِ (نظامٌ يُجبَرُ فيه الناسُ على العملِ دُونَ مقابلٍ سِوى إطعامِهم وسِقايتِهم حَدَّ الكَفافِ، يُشبهُ الاستِرقاقَ)، وذلك لِبناءِ ذلك السدِّ التُّرابّى من آلافِ الأطنانِ من الترابِ، والحَطَبِ، والأخشابِ التى تُثبَّتُ رَأسيًّا وأُفقيًّا لتُساعدَ على تثبيتِه فى مواجهةِ اندفاعِ المياهِ، لغَرضَينِ الأول: حفظُ ماءِ النيلِ وعدمِ السَّماحِ بمرورِه إلى البحرِ، والثاني: حمايةُ مياهِ النيلِ العذبةِ -حين ينخفضُ مَنسوبُها بين كلِّ فيَضانَيْنِ- من مياهِ البحرِ المالحةِ التى كانت تَطغَى عليها فتَختلِطُ بها وتُفسدُها، فلا تَصلحُ للشُّربِ أَو الزرعِ، ولنا أَن نتصورَ حجمَ الضررِ الذى كان يلحقُ بحياةِ البلادِ والعبادِ؛ إذا علِمنا أَنَّ ماءَ البحرِ كان يغزُو النهرَ جنوبًا فيَصِلُ إلى محافظةِ المنوفيةِ، وأَحيانًا إلى مشارفِ منطقةِ القناطرِ الخيريةِ فى محافظةِ القليوبيةِ مُتجاوزًا بذلك 200كم من طولِ النهرِ، وعلى ضَفَّتيْهِ مُدنٌ، وقُرًى يتعرضُ سكانُها للعَطشِ، ومِساحاتٌ شاسعةٌ من الأَراضى الزِّراعيةِ تتعرضُ لِلبوارِ، ولعلَّ عطشَ الزرعِ واصفرارِه لِيبدوَ مُحترقًا هو سببُ تَسميةِ تلك الفترةِ من كلِّ عامٍ بأَيامٍ التَّحاريقِ، فلما انهارَ السدُّ التُّرابىُّ أمامَ اندفاعِ مياهِ النيلِ بقوةٍ بسببِ ارتفاعِ منسوبِ الفيضانِ فى ذلك العامِ (وعادةً ما يَفيضُ النِّيلُ فى شهرِ أُغسطس من كلِّ عام)؛ لم تَتردَّد الحكومةُ فى الموافقةِ على الفكرةِ، فشَرعتْ بدراستِها، ثُم تَوفيرِ الاعتِماداتِ المالِيَّةِ، والمعِدَّاتِ، والمهندسِينَ والعمالِ، ومِن ثَمَّ بَدأَتْ فى تَشييدِ القناطرِ برزخًا مَنيعًا يَفصلُ بينَ الماءَيْنِ فلا يَبْغِيانِ، ولِيكونَ آخرَ سَدٍّ على النيلِ العظيمِ (فرع رشيد)، يَحفظُ لمصرَ سِرَّ وجودِها، ويَهبُ الحياةَ لسُكانِها، ولتكونَ أَيضًا أَقدمَ جسرٍ حَجرىُّ يربطُ شمالَ ووسطَ الدِّلتَا بغربِها.
لم تكُن قناطرُ إِدفينا سَدًّا عاديًّا، من حيثُ الحاجةِ إِليها، أو الموقعِ الذى يعكسُ جوهرَ أَهمِّيتَها، لذا كانَ يجبُ أَن يُناسبَ التَّصميمُ تلك الحاجةَ، ويَتآلفَ مع ذلك الموقعِ، وهو ما حدثَ بالفعلِ، فحينَ تَقفُ أَمامَها تجدُ نفسَكَ أَمامَ عَملٍ هَندسِىُّ عِملاقٍ مَتينٍ ذِى مُكوناتٍ بالغةِ الدِّقةِ والتَّعقيدِ تَتكاملُ وتَتناغمَ؛ لِتُشكلَ أَجملَ لَوحةٍ فنيةٍ مَقروءةٍ دونَ حاجةٍ لِشارحٍ، تمتازُ بتَنسيقِها الذى جعلَ منها تُحفةً مِعماريةً تَتقاسَمُ الجمالَ مع مُحيطِها الأَخضرِ على الجانبَينِ الشرقيِّ والغربىِّ، والأَزرقِ على جانبَيْها الشَّمالىِّ والجنوبىِّ.
استقدَمتِ السلطاتُ مِئاتِ الآلافِ من أَطنانِ الجرانيتِ الأَسوانىِّ الأَحمرِ المعروفِ بصَلابتِهِ ومُقاومتِهِ لِلمياهِ، وشَيَّدتْ بهِ قناطرَ إِدفينا فى مكانِها الحاليِّ فى عرضِ النهرِ بطولِ 550 مترًا، مُكوَّنةً من هَوِيسٍ مِلاحيٍّ فى الجانبِ الغربىِّّ منها، تَتلُوهُ 46 قَنطرةً (عَيْنًا) تَتوالَى حتَّى نهايتِها فى الجانبِ الشَّرقيِّ، أَمَّا الْهَوِيسُ فيَبلغُ عرضُه 12 مترًا، وطولُه 80 مترًا ويَفصلُ بينَ الماءَيْنِ الأَعلَى (ماءِ النيلِ) والأَدنَى (ماءِ البحرِ)، والمياهُ بداخلهِ مُساويةٌ لِمنسوبِ مياهِ البحرِ، ولِلهويسِ بوابَتانِ حَديدِيَّتانِ حاجزتَانِ على حَدَّيْهِ الجَنوبيِّ والشماليِّ، تُفتحانِ آليًّا على مَرحلتَينِ تَواليًا؛ الأُولى لإِدخالِ مياهِ النِّيلِ إِليهِ لرفعِ منسوبِهِ بما يَسمحُ بانتقالِ المراكبِ والسُّفنِ إليهِ انتقالاً سَلِسًا، والثانية لِتصريفِ المياهِ حتى تَتساوَى مَرَّةً أُخرَى مع منسوبِ البحرِ لتَنطلقَ المراكبُ والسُّفنُ باتجاهِ الشَّمالِ، فإِذا كانتِ السفنُ قادمةً من البحرِ فإِنَّ الهويسَ يَستقبلُها أَولاً، وتَظلُّ بداخلِهِ حتَّى يَتمَّ مِلْءُ الهويسِ بماءِ النيلِ فيَرتفعُ منسوبُه تَدريجيًّا إلى أنْ يَتساوَى مع منسوبِ النهرِ، ومِن ثَمَّ تُفتحُ البوابةُ الجنوبيةُ لِتَعبُرَ منها السُّفنُ باتجِّاهِ النَّهرِ جنوبًا، وعلى جَانبى الهَويسِ عددٌ من أَعمدةِ الإِنارةِ، وبعضُ الأوتادِ المعدنيةِ الضَّخمةِ تُستَخدمُ لَربطِ السُّفنِ بها لمنعِها من الحركةِ عندَ الضرورةِ، ويَتقاطعُ الهويسُ فى جزءٍ منهُ معَ آخرِ جُزءِ من جسدِ القناطرِ فى جهتِها الغربيةِ، يُغطى هذا التقاطعَ سَقفٌ حجريٌ مُوازٍ لِسقفِ القناطرِ لكنَّهُ مفصولٌ عنه بفاصلٍ دَقيقٍ يَسمحُ برفعِه وتحريكِه آليًّا بشَكلٍ دائرىِّ أُفقىِّّ حتَّى انتِهاءِ مُرورِ السُّفنِ، ومِن ثَمَّ إِعادتُه لِوضعِهِ لاستِئنافِ عبورِ السياراتِ والمشاةِ من فوقِ القناطرِ، ولكنَّ هذا النوعَ من الملاحةِ قد تَوقَّفَ حاليًا لِعدةِ أَسبابٍ، أَهمُّها استخدامُ النَّقلِ البريِّ الأَوفرِ فى الوقتِ والجَهدِ، وأَمَّا عُيونُ القناطرِ فعرضُ كلِّ واحدةٍ مِنها 8 أَمتارٍ، وطُولُها الذى تعبرُ منه المياهُ 22 مترًا، تَفصلُ بينَها فواصِلُ قويةٌ من الحجارةِ ذاتِها، عرضُ الفاصل منها مِترانِ، وهى عيونٌ قائمةُ الجوانبِ دائريةُ السَّقفِ تأخذُ شكلَ القبابِ، مُغلَقةٌ غالبًا لحفظِ ماءِ النهرِ ليَبقَى عند منسوبٍ مُحدَّدٍ بمَقاييسَ تُؤشِّرُ لزيادةِ أَو نُقصانِ المياهِ، ويُفتَحُ بعضُها، أَو جميعُها أَحيانًا لِتفريغِ المياهِ الزائدةِ عن ذلكَ المنسوبِ إِلى البحرِ لِئَلَّا يَتسببَ فى غرقِ جزرِ النيلِ، أو القُرَى والمساحاتِ المنخفضةِ على جانبيهِ، وكذلكَ لِتصريفِ المياهِ الْمُلوَّثةِ إِذا لزمَ الأمرُ.
على سَطحِ القناطرِ صورةٌ أُخرَى للجمالِ تتنوعُ مفرداتُها، لتَكتملَ لنا اللوحةُ الفنيةُ كأَروعِ ما يَتراءَى للناظرِ على طولِ فرعِ رشيدٍ، فحينَ تَقفُ على ظهرِ القناطرِ تجدُ نفسَك فوق جسرٍ راسخٍ جاثمٍ على النهرِ تَحارُ عيناكَ فى الاستقرارِ على النظرِ إِلى أَىِّ من جوانبِها، فكلُّها آخَّاذةٌ آسِرةٌ، يَبلغُ عرضُ سطحِ القناطرِ بجميعِ مُكوناتِهِ 16 مِترًا، مُوزَّعة على نهرِ الطريقِ الذى يبلغُ عرضُه 12 مترًا، وكانَ مُغطًّى بقِطَعٍ من الحجرِ البازلتيِّ الأَسودِ منذُ إِنشائِهِ حتى وقتٍ قريبٍ، وهو صَخرىِّ صَلدٌ لا يَتأثرُ بحركةِ السياراتِ من فوقِهِ ويحافظُ على جَسدِ السَّدِّ من تحتِه، لكنَّ السلطاتِ فى إِحدَى خُططِ الترميمِ رَفعَتْهُ واستبدلَتهُ بطبقةٍ أَسْفَلْتِيَّةٍ كالتى تُستخدَمُ فى رَصفِ الطُّرقِ البريَّةِ، وهى مادةٌ تتعرَّضُ للتَّلفِ سريعًا، مما قد يُؤثِّرُ بشكلٍ كبيرٍ على طبقةِ سطحِ الجسرِ ومِن ثَمَّ على كامِلِ جسدِ القناطرِ، وهو ما أَثارَ مخاوفَ حقيقيةً من انهيارِ القناطرِ أو أَجزاءٍ منها مع مُرورِ الوقتِ، وكَثُرَت الشَّكاوَى والنِّداءَاتُ الْمُخلِصَةُ من المهتَمِّينَ وأَبناءِ المنطقةِ والنُّوابِ إلى السُّلطاتِ المختصَّةِ لِتَدارُكِ الوضعِ ومعالجتِهِ قبل فواتِ الأوانِ، ما دَعا الأخيرةَ إلى التَّجاوبِ والإسراعِ فى رَصدِ مِيزانيَّةٍ مَاليَّةٍ لِترميمِ القناطرِ ومُعالجةِ ما بها مِن مُشكلاتٍ طَرَأَتْ بِسببِ مُرورِ الزمنِ وسُوءِ الاستخدامِ، كما أَصدرَتْ قرارًا بمَنعِ عُبور الشاحِناتِ وسَياراتِ النَّقلِ الثّقيلِ من فوقِها لعلَّ ذلكَ يُسهِمُ فى حفظِ ظهرِها من التَّآكُلِ، وعلَى جانبَيِ الجسرِ رَصيفانِ لِلمشاةِ يُستَخدمانِ لِلتَّنزُهِ أو العبورِ مشيًا من أَحدِ جانبَى النهرِ إلى الآخرِ، عرضُ كلٍّ منهُما 150سم، ويَرتفعانِ عن سَطحِ الجسرِ بمقدارِ 15سم، ثمَّ يَلى كلَّ رَصيفٍ منهمُا حَاجزُ (سُورٌ) يَرتفعُ بمقدارِ مترٍ واحدٍ عن سطحِ الطريقِ، ويَبلغُ عرضُ الحاجزِ الشماليِّ 120سم، فيما يَبلغُ عَرضُ الجنوبىِّ ثلاثةُ أَمتارٍ ونصفُ المِترِ، تَتَخلَّلُهُ فَتحاتٌ تَعلُو البواباتِ الحَديديَّةَ المتحَكِّمةَ فى حَجزِ أو تَصريفِ المياهِ من خلالِ العيونِ، مُثَبَّتٌ على كلا الحاجزَينِ قَضِيبانِ حَديديَّانِ كما فى خُطوطِ القطاراتِ، يَمتدانِ بطولِ الجِسرِ، لِيسيرَ عليهِما وِنْشَانِ (الوِنشُ: رَافِعةٌ آليَّةٌ) لكلٍّ منهُما عَجلَتَانِ كَعجلاتِ القِطارِ، يَحملُ كلُّ وِنْشٍ غُرفةً حَديديَّةً مُعَلَّقَةً مُستَطيلةً عرضُها أَربعةُ أَمتارٍ، وطولُها سبعةُ أَمتارٍ، وارتفاعُها ثلاثةُ أَمتارٍ، مُرتفِعةً عن سطحِ الجسرِ بمقدارِ عشرةِ أَمتارٍ تقريبًا، ومِن دَاخلِها يَتحكَّمُ الموظَّفُ آلِيًّا بسيرِها على القَضِيبَينِ الحديدِيَّينِ شَرقًا أَو غربًا؛ لِفَتحِ أو غَلقِ عُيونِ القناطرِ باستخدامِ سَلاسِلَ حَديديَّةٍ قويةٍ ضَخمةٍ (جَنازِير) تَتدَلَّى من تِلكَ الغُرفةِ إِلى البوابةِ الْمُرادُ التَّعامُلُ مَعها فتَرفَعُها أو تَخفِضُها، مِن خلالِ الفَتحاتِ الَّتى صُمِّمَتْ لِهذا الغَرضِ فى سَقفِ الحاجزِ الجَنُوبيِّ على طَرفِ الجسرِ، ثُمَّ يَلِى كلَّ حاجزٍ مِنهُما بُرُوزاتٌ خارجيةٌ، أُفقيَّةٌ نِصفُ دَائريةٍ طولُها 150سم، وهيَ جُزءٌ من ذلكَ الحاجزِ، مُوزَّعةٌ بينَ كلِّ أَربعةِ عُيونٍ لِلقناطرِ، ما عدَا الحاجزَينِ الأولِ والثانِى فبَينَهُما ثلاثُ عيونٍ فَقط، وعلى هذهِ البُرُوزاتِ نُصِبَتْ أَعمِدةُ إِنارةٍ، عددُها سِتةٌ وعِشرونَ عَمُودًا، مَقسُومةٌ بالتَّساوى على الجانبَينِ، وجميعُها فِضِّيةُ مُتطابقةُ التَّصمِيمِ، رائِعةٌ كأَنَّها تُحفٌ فَنيةٌ، يَعلُو كلًّا مِنها مِصباحانِ فى صُندوقَينِ زُجاجيَّينِ يَتجِهان لِأَعلَى، تَتوسَّطُهُما قِطعةٌ حديدٍ طُولُيةٌ نَحيفةٌ بها إِشاراتٌ ضَوئيةٌ، وتُساوِى المصباحَينِ فى الارتفاعِ، وقاعِدةُ كُلِّ عَمُودٍ جُزءٌ مِنه، وهيَ عِبارةٌ عن غُرفةٍ صَغيرةٍ عرضُها 40 سم وطُولُها 70سم، صُمِّمَتْ لِلتَّحَكُّمِ من خِلالِها فى الإِنارةِ والإِطفاءِ، نُقِشَ على أَبوابِها بالخطِّ البارزِ شِعارُ المملكةِ المصريةِ آنَذاكَ، وهُو عبارةٌ عن هِلالٍ يَتجهُ إِلى يَمينِ النَّاظرِ، وبداخِلِه ثلاثُ نَجماتٍ خُماسِيةِ الشَّكلِ، لكنَّ مُعظمَ هذهِ الأبوابِ تَعرَّضتْ لِلتَّلفِ أو الاختِفاءِ كما أَن بعضَ الأَعمدةِ تَعرضَ لِلصَّدأِ وتَعطُّلِ الإِضاءَةِ نتيجةَ الإهمالِ وعدمِ المتابعةِ والصِّيانةِ.
منذُ إِنشائِها لم تكنْ قناطرُ إِدفِينا -بالنسبةِ لسُّكانِ المنطقةِ- مُجرَّدَ سَدٍّ لِحفظِ مَاءِ النيلِ فَقط، فقد امتلَكَتْ مع مُحيطِها الأَزرقِ والأَخضرِ من المقوماتِ مَا جَعلَها مَقصدًا لِلزُّوارِ والسّائِحِينَ من أَبناءِ المدنِ والقُرَى المجاوِرةِ، نظرًا لوُجودِ مِسَاحاتٍ علَى جانبَى القناطرِ قادرةٍ علَى استِيعابِ جَماهيرَ غَفيرةٍ، تلكَ المساحاتُ عبارةٌ عن عددٍ من الحدائقِ الخضراءِ بلَغَتْ وقتَ إِنشائِها حوالَى خمسةً وثلاثينَ فدانًا، عَشرةٌ مِنها بالبرِّ الأيمنِ (الشرقىِّ)، وخمسةٌ وعِشرونَ بالبرِّ الأَيسرِ (الغربىّ)، وبالرَّغمِ من تَقلُّصِ مِساحاتِ هذهِ الحدائقِ مع مُرورِ الوقتِ إلى مَا يَقرُبُ مِن النِّصفِ نتيجةَ التَّضييقِ علَيها بالمنشَئاتِ الخَدميةِ والعمرانيةِ، إِلَّا أَنها ظَلَّتْ الوِجهةَ الأُولى والأَقربَ لِراغِبى النُّزهةَ والفُسحَةَ والاستِجمامِ مِن أَبناءِ مُحافظَتَى كفرِ الشيخِ والبُحيرةِ، والمحافظاتِ المجاورةِ لَهما، باعتبارِها الْمُتَنَفَّسَ الوحيدَ لَهُم، فَيَفدُ إِلَيها الناسُ جَماعاتٍ وفُرادَى لِلتَّنزُّهِ فى الأَعيادِ، والمناسباتِ العامةِ، كذلكَ تَقصدُها الرَّحلاتُ الطُّلابيةُ والعُماليَّةُ، وزَفَّاتُ الأَعرَاسُ الَّتى أَصبحَ طَقسًا من طُقوسِها أَن تَمرَّ بِها، أو تَمكُثُ بها لِبعضِ الوقتِ؛ لِالْتقاطِ الصُّورِ التّذكاريةِ، وكذلكَ تُقامُ فِيها ندواتٌ ثَقافيةٌ وفَنيةٌ يُشرفُ علَيها بَيتُ ثَقافةُ مُطوبِس، باعتِبارِها مَكانًا مَفتُوحًا لِعامةِ النَّاسِ وخَاصَّتِهِم، وأَنا كَواحِدٍ من أَبناءِ المكانِ ورُوَّادِهِ الدَّائِمِينَ؛ فقَد أَسهَمَ فى تَكوِينى الإِنسانِيِّ والثَّقافِيِّ والعاطِفىّّ، إِذ لا يَبْعُدُ سِوَى عَشرةِ كيلومتراتٍ عن قَريَتِى القُومِسْيُون شَرَق، ضِمنَ قُرَى مُطوبِس، وليسَ فيهِ مَوضعُ قَدَمٍ إِلَّا ولِى فيهِ ذِكرَى، وبِرغمِ الإِهمالِ الَّذى تَتعرَّضُ له القناطرُ وحدائِقُها بما لا يَتَناسبُ مع جمالِ الموقعِ وأَهمِّيتِهِ؛ إِلَّا أَنه علَى فَتَراتٍ مُتَباعِدَةٍ تَطرَأُ مُحاولاتٌ من المسؤُولِينَ لِلنُّهوضِ بِها وتَطويرِها، فيَهتمُّونَ بِنَظافتِها وتَنسِيقِها، ويُحفِّزُونَ المستثمرينَ الصِّغارَ علَى تقديمِ بعضِ الخَدماتِ لِلزَّائرينَ، وإِنشاءِ مَلاعبَ، ومَلاهٍ وكافِيهاتٍ، وتَوفيرِ مَقاعِدَ ثابتةٍ ومتحركةٍ، وقَواربَ صَغيرةٍ للتَّنزُّهِ البَحرىّّ، وخُيولٍ يَمتَطِيها الوافِدونَ، إِضافةً إلى إِنشاءِ قاعةٍ عائمةٍ راسيةٍ على الشَّاطئِ الشَّرقيِّ للنيلِ بمَدينةِ مُطوبِسَ جنوبىّّ القَناطرِ مُباشرَةً، تُستخدَمُ للحفلاتِ والاجتماعاتِ، إِلَّا أَنَّ ذلك الاهتمامَ النِّسبيَّ لَم يَرْقَ أَبدًا لِمَا يَليقُ بمُستوَى المكانِ ومُقومَاتِه الطَّبيعيَّةِ، الَّتى تُؤهلُهُ لأن يكونَ من أَفضلِ المقاصِدِ السِّياحيةِ فى مصرَ.
منذُ إِنشائِها -وإِلى الآنَ- ظَلَّ الجانبُ الغربيُّ لقناطرِ إِدفينا مُتميِّزًا عنِ الشرقيِّ فى التَّنسيقِ وتقديمِ الخدماتِ، نظرًا لاتِّساعِ المساحةِ، ومُجاورتِها لِلهَويسِ الملاحيِّ الَّذى يُضيفُ إلى جمالِ المكانِ ورَوْنقهِ، كما يُعَدُّ هذا الجانبَ بَوابةً لمنطقةٍ شَاسعةٍ من المساحاتِ الخضراءِ المزروعةِ بأَشجارِ الزِّينةِ والفواكهِ والموالحِ، تَبلغُ مِساحتُها مِئةِ فدانٍ تقريبًا يُطلقُ عَليها الْمُستَعمَرةُ؛ كونَها كانت مَقرًّا لإقامةِ الجنودِ الإنجليزِ خلالَ فَترةِ إِنشاءِ القناطرِ، وبها عَددٌ من الفِّيلَّاتِ والاستِراحاتِ الَّتى كانَ يَسكنُها المهندسونَ المشرفونَ على بناءِ القناطرِ وإِدارتِها، والمشرفونَ علَى الأراضِى الزراعيةِ المجاورةِ لَها فى قريةِ إِدفينا، القريةِ الجميلةِ الرَّاسيةِ على الضَّفةِ الغربيةِ لِلنيلِ جنوبَ القناطرِ بأَقلَّ من كيلومتر واحدٍ، تَتبعُ مركزَ رشيدٍ فى محافظةِ البُحَيرةِ، لها طابعُ المدنِ الصَّغيرةِ، ويَرجعُ تاريخُ إِنشائِها إلى حِقبةِ المماليكِ، ويُطلِقُ علَيها مُثقَّفُوها القريةَ الملكيةَ، نِسبةً إِلى القصرِ الملَكىّ الموجودِ بها، الَّذى بُنِىَ على الطِّرازِ الإِيطالىٌّ، فى ثلاثِ مراحلَ، أَوَّلُها فى عهدِ الخديوى عَباس حِلمى الثَّاني، وثانِيها فى عهدِ الملكِ فؤادٍ، وآخرُها فى عهدِ الملكِ فاروقٍ، وقد ظَلَّ القصرُ مَعروفًا باسمِهِ إِلى اليومِ، والقَصرُ يَتكونُ من ثلاثةِ أَجنحةٍ، وثَلاثةِ طوابقَ، ويُطلُّ على النيلِ مُباشرةً، وبهِ مَرسًى نَهرىٌّ وحَديقةٌ بها العديدُ من أَشجارِ الزينةِ النَّادرةِ، وقد استُخدِمَ القصرُ كمَقرٍّ للمَعهدِ العَالِى الزِّراعيِّ، ثم كمَحَطةٍ للبُحوثِ الزِّراعيةِ قبلَ أَن يتمَّ تَخصِيصُهُ فى عامِ 1975م لِيكونَ مَقرًّا لكُلِّيةِ الطِّبِّ البَيطريِّ (جامعةِ الإسكندريةِ)، ثمَّ نَقلَت الكُليةُ مُؤخَّرًا إِلى مَدينةِ الإسكندريةِ ذاتِها، ويَتطلعُ أبناءُ القريةِ حاليًّا إِلى تَجهيزِ وتَهيئةِ القصرِ مِن قِبلِ السُّلطاتِ؛ ليكونَ مزارًا سِياحيًّا، إِذَنْ فإِنَّ لِلحدائقِ بالبرِّ الغربىّ خَصائِصَ جعلَتْ مِنها الوِجهةَ الأَساسيَّةَ لِزُّوارِ القناطرِ، والأَكثرَ إِمتاعًا لَهُمْ، ولا يَعنِى ذلكَ فُقدانُ الحدائقِ الشَّرقيةِ مُقوماتِ الجذبِ والإِمتاعِ، وإِن كانت أَقلَّ بسببِ ضِيقِ المساحةِ، وزَحفِ العُمرانِ إِلى حُدودِها مُباشرةً، إِلا أَنها تَتميزُ أَيضًا بوقوعِها شَمال مَدينةِ مُطُوبِسَ مُباشرةً، المدينةِ الجميلةِ الهادئةِ، وهى عاصمةٌ لمركزٍ إِداريٍّ يَتبعُ محافظةَ كفرِ الشيخِ، قِيلَ إِنها كانتْ قديمًا تَبعُدُ شَرقًا عن مَوقِعِها الحالِى بحوالى ثلاثة كليومترات، مكانَ ما يُسمَى حاليًا بالكُومِ الأَحمرِ، التَّلِّ الأَثرىُّ الشَّهيرِ، وحَسبَ ما تَوصَّلَ إِليهِ الأَكاديمِيُّ الأَثرىُّ الدكتورُ خالد عزَب فقد كانَ هو مُطوبِسَ القديمةَ، وكانت تُسمَّى حِينها (نُطوبِس)، وهى كلمةٌ يُونانيَّةٌ قديمةٌ تَعنِى: البَحَّارةَ الصِّغارَ، أَسَّسها فى ذلكَ المكانِ بحارَّةٌ يُونانيُّونَ لِتكونَ مَيناءً على الشاطئِ الجنوبىّ لبُحيرةِ البُرلُّسِ الَّذى كانَ يَتَماسّ مع الضَّفةِ الشَّرقيةِ للنِّيلِ كُلَّما فاضَ النهرُ، وقَد كانتْ حُدودُ البُحيرةِ تَصلُ إِلى هذا المكانِ قبلَ انحسَارِها باتِّجاهِ الشمالِ بسببِ زَحفِ طَمْى النِّيلِ (الطِّين النِّيلىّ) علَيها قادِمًا مع مياهِ النهرِ من جِهَتَى الغربِ والجنوبِ فى مَواسِمِ الفيضانِ، فغَطَّى الطّمىُ مِساحاتٍ شاسعةً مِنها، وأَتى على نِصفِ المساحةِ التاريخِيَّةِ لبُحيرةِ البُرلُّسِ؛ لِتتحولَ من أَكبرِ إِلى ثانِى أَكبرِ البحيراتِ الطبيعية فى مِصرَ، الأَمرُ الَّذى مَكَّنَ الأَهالِى والحكوماتِ المتعاقبةَ من استِصلاحِ المساحاتِ المغطَّاةِ بالطَّمى؛ لِتَتحوَّلَ إِلى أَراضٍ زِراعيةٍ، هَاجرَ إِليها الكثيرُ من المصريينَ، فاستَوْطنُوها وبَنَوا فِيها قُرًى جَديدةً، إِذَن؛ فإِن الكُومَ (التلَّ) الأحمرَ الحَالِىّ هُو مطوبسُ القديمةُ، وقد سكنَها المصريونَ منذُ نشأَتِها إِلى أَنْ دَمَّرَها زِلزالٌ قوىٌّ عامَ 365م، عُرِفَ بزِلزالِ شَرقِ المتوسطِ المدَمِّرِ، ضَربَ مِصرَ والشَّامَ وجَنوبَ شرقِ أُوروبَّا؛ فدَمَّرَ مُعظمَ قُرى الدِّلتا، وضربَ مدينةَ الإسكندريةِ فأَغرَقَ أَجزاءً مِنها، أَهمُّها جَزيرةُ أَنتِيرُودَس الَّتى كانت مَقرًّا لِقَصرِ وحُكمِ كِلْيُوباتَرا.
ولَعلَّ ذلكَ هو ما يُفسرُ وجودَ عددٍ غيرِ قليلٍ من التِّلالِ الأَثريةِ الكثيرةِ لِقُرًى مُدَمَّرةٍ مُنتشرةً فى دِلتا مِصرَ، وتُشبه كَثيرًا الكُومَ الأَحمرَ، وعَقِبَ الزلزالِ نَزحَ العددُ الأَكبرُ من النَّاجينَ إِلى شاطِئِ النيلِ مَكانَ مطوبسَ الحاليةَ، فاستَوطنُوهُ، وبَنَوَا مَدينتَهُمُ الجديدةَ، ولا نَستطيعُ خَتمَ الكلامِ عن مُطوبسَ دُونَ المرورِ علَى حَدِّها الجنوبىّ، جنوبِ القناطرِ بمسافةِ كيلومترين، حيثُ تَتراءَى لكَ تُحفةٌ هَندسيةٌ أُخرَى تُضيفُ إلى القناطرِ ومُحيطِها جَمالاً ورَوعةً استِثنائِيَّيْنِ، جِسرُ السِّكةِ الحديدِ الَّذى يَعبرُ فَوقَ النيلِ مَسافةَ 400 مِتر، إِذ يَضيقُ النِّيلُ تحتَه عن عرضِهِ تحتَ القناطرِ، أُنشِئَ لِيربطَ وسطَ الدِّلتا بغَربِها، وتَمرُّ عليهِ القطاراتُ لِتَتجهَ جنوبًا باتِّجاهِ مدينَتَى فُوَّة ودُسُوق، وشرقًا باتجاهِ بعضِ قُرى مركزِ سَيِّدِى سالمٍ، وغربًا باتجاهِ رشيدٍ والإسكندريةِ، وقد صُمِّمَ هذا الجسرُ الحديدىُّ العملاقُ على الطِّرازِ الإِنجليزىّ بأَيدِى مهندسينَ مِصريينَ، وتَمَّ الانتهاءُ من تَشييدِهِ سنةَ 1933م، وبه جُزء مُتحركٌ (صِينيَّة) يَدورُ أُفقيًّا لِلسَّماحِ بعبورِ السُّفنِ، ويُشبهُ (كُوبرِى إِمبابَة) الشَّهيرِ الذى يَعبرُ فوقَ النيلِ ليربطَ مدينةَ القاهرةِ بالجيزةِ، وكانت لِلقطاراتِ العابرةِ هذا الجسرَ مَحطةُ سِكةِ حديدٍ رَئيسةٍ داخلَ مدينةِ مُطوبِسَ (مكانَ المدرسةِ الإِعداديةِ للبناتِ حاليًا)، وحينَ ضاقَ عليها المكانُ نُقلَتْ فى ثمانيناتِ القرنِ الماضِى إِلى مكانِها الحالِىّ جنوبّى المدينةِ مباشرةً، وفى الشَّمالِ الشرقىّّ للقناطرِ مباشرةً تَقعُ قريةُ إِبيانةَ التّاريخيةُ، مَسقطَ رَأسِ سعد باشا زغلول زعيمِ ثورةِ 1919م، وبها منزلُهُ التاريخىُّ، الَّذى يُستَغلُّ مُنذُ أَكثر من نِصفِ قَرنٍ كمَدرسةٍ ابتدائيَّةٍ لِأَبناءِ القريةِ، وتذكُر بعضُ المصادرِ أَنَّهُ كانَ بالقريةِ فَنارٌ (برجٌ مُضِىء) للإِرشادِ الملاحِىّ، إِذ كانت -قديمًا- مَرسًى لِلسُّفنِ ومراكبِ الصَّيادِينِ.
ولا تَختلفُ الآنَ كثيرًا عن قريةِ إِدفينا فى جَمعِها بينَ حَضَريةِ المدينةِ وهُدوءِ القريةِ، إِلا أَنهُ فُصِلُ بينَها وبينَ النيلِ والقناطرِ بتُرعةٍ (مَجرًى مائِيّ صَغِير) تُعرفُ بالقَضَّابةِ وتَأخذُ مِياهَها من النِّيلِ جنوبَ القناطرِ مُباشرةً، لِتَجرىَ بها شَمالاً فتُوزِّعُها من خِلالِ تُرعٍ مُتفرِّعةٍ على الأراضِى الزِّراعيةِ شَمالَ وشمالَ شَرقِ مُطوبِس، ويَلِى هذه التُّرعةَ طريقٌ عُمومِيٌّ مُوازٍ لها يَربطُ مُطوبسَ بقُرَى الشّمالِ ويَنتهِى إِلى مَشارفِ البَحرِ المتوسطِ، مِمَّا أَفقدَ إِبيانَةَ مَيزةَ الإِطلالةِ المباشرةِ على النِّيلِ كقريةِ إِدفينا فى البَّرِ الغَربيِّ، واعتزازًا بالزعِيمِ الراحلِ وتاريخِهِ النِّضالىّ فقد وُضعَ لهُ تِمثالٌ فى المدخلِ الشَّرقىّّ للقناطرِ، يَستقبلُ بوجهِهِ وراحتِهِ اليُمنَى المَمدودةِ القادِمِينَ من مُدنِ وقُرَى غربِ النيلِ إلى شَرقِهِ، عابرينَ قناطرَ إِدفينا إِلى وسطِ الدِّلتَا، جَنَّةِ مِصرَ الخضراءِ.
اقرأ ايضا | أرشفة ثورة التحرير فى الجزائر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.