العالم كله يحتفل هذه الأيام بالكريسماس، أو بمولد المسيح، ومن حق مصر أن تكون فخورة بهذه المناسبة، لأنها الأرض التى اختارها الله سبحانه وتعالى لحماية المسيح فى طفولته من القتل، وهانحن نروى قصة المسيح فى مصر. المشهد الأول دخل الحاجب على سيده هيرودس، ملك اليهود، انحنى أمامه باحترام وتوقير. قال له فى صوت خافت: مولاى، يوجد بعض المجوس يريدون لقاءك. هل تأذن لهم بالمقابلة؟ - وماذا يريد المجوس مني؟ - لا أعرف، فهم يرفضون الكلام إلا معك شخصياً - أدخلهم دخل المجوس. قدموا لهيرودس التحية. بادرهم بالسؤال: قال لى الحاجب إنكم لا تريدون الكلام إلا معى شخصياً. خيراً، ماذا تريدون؟ تقدم أحد المجوس. قال : جئنا نسألك عن ملك اليهود الذى وُلد أخيراً. أين هو؟ لقد رأينا نجمه فى المشرق، وأتينا لنسجد له. قال هيرودس مندهشاً: ملك اليهود؟ ظهر نجمه؟ أيوجد لليهود ملك غيرى؟ قال له المجوسى: نعم. إنه ملك أخبرت السماء بمجيئه، وقد كنا ننتظره، وحين ظهر نجمه جئنا لنسجد له. شعر هيرودس بالخوف. من هذا الملك الذى سيأتى ويأخذ مكانه؟ صمت لحظة، ثم قال لهم: - حسناً. ليس بوسعى أن أخبركم الآن بشيء. لكنى سأسأل عن هذا الملك السماوى، وحين أعرف التفاصيل سأخبركم بما تريدون. تفضلوا بالانصراف الآن وانتظروا رسولاً مني. لن أتأخر عليكم. خرجوا. لم يكن رد هيرودس مريحاً لهم. لكنهم رأوا أن ينتظروا. أما هيرودس فقد كان مضطرباً. استدعى حاجبه. قال له بلهجة آمرة: أيها الحاجب، أريد أن تدعو لى كل رؤساء الكهنة، وكتبة الشعب. قل لهم إنى أريدهم فى اجتماع عاجل. عاجل جداً. المشهد الثاني جاء رؤساء الكهنة وكتبة الشعب، وطرح هيرودس عليهم سؤالاً محدداً: أين يولد المسيح؟ أجابوه: فى بيت لحم. وأضاف أحدهم: مكتوب هكذا بالنبي»وأنت يابيت لحم، أرض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعب إسرائيل». - عظيم. أجبتم الإجابة المطلوبة. يمكنكم الانصراف. انصرفوا، وطلب هيرودس من حاجبه مرة أخرى أن يحضر له المجوس، وقال له: إياك أن تبلغ مخلوقاً بهذه الدعوة. إنها دعوة سرية. هل تفهم؟ - أفهم يا مولاى المشهد الثالث جاء المجوس. بادرهم هيرودس وهو فى قمة التوتر: متى رأيتم النجم الذى ظهر؟ قالوا له الموعد بمنتهى الدقة، فقال لهم: للأسف، لم يعرف أحد من أتباعنا شيئاً عن مكان الملك المنتظر. اذهبوا الآن إلى بيت لحم، وابحثوا عن الصبي، ومتى وجدتموه فأخبرونى لكى آتى أنا أيضاً وأسجد له. المشهد الرابع ساروا نحو بيت لحم. كان النجم دليلهم. ووقف النجم فوق المكان الذى فيه الصبي، وأتوا إلى البيت، واستأذنوا، ودخلوا حيث يوجد المسيح، وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم، وقدموا له الهدايا: الذهب واللبان والمر. لكنهم لم يعودوا لهيرودس، فقد أوحى الله لهم ألا يذهبوا، لذلك عادوا إلى بلادهم. الحلم تثاءب يوسف النجار، خطيب العذراء مريم، الذى خصه الله برعايتها ورعاية ابنها. شعر برغبة شديدة فى النوم بعد يوم طويل. تمدد فى فراشه واستسلم للنوم. أثناء نومه ظهر له ملاك الرب فى الحلم. سأله يوسف والرهبة تملأ نفسه: ماذا تريد؟ - قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه. نهض يوسف فوراً. أيقظ السيدة العذراء، وأخذها وولدها وسار بهم فى عز الليل. سار إلى مصر. الانتقام صاح هيرودس فى ثورة: كيف عاد المجوس لبلادهم دون أن يخبرونى بموضع الملك المنتظر؟ هل يسخرون مني؟ لم يستطع الحاجب الإجابة. ولم يستطع الملك أن يسيطر على نفسه وهو يشعر بخطر زوال عرشه. صرخ بأعلى صوته: اقتلوا جميع الصبيان الذين فى بيت لحم وتخومها، من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذى أخبرنى به المجوس. اقتلوهم جميعاً. وكانت مذبحة للأطفال وللبراءة. سيناء كان موكب بسيط يتحرك على أرض سيناء قادماً من جهة غزة. موكب يضم ثلاثة أفراد لا غير. امرأة تركب حماراً، وفى حضنها طفل، ورجل متعب يقود الحمار. حين دخلوا سيناء شعر يوسف النجار ومريم عليها السلام بالأمان لأول مرة، فقد أصبحوا الآن بعيدين عن مملكة هيرودس. نظر إلى السماء وقال بامتنان عظيم: اللهم لك الحمد والشكر. هانحن ننجو بالطفل. إنها مشيئتك تتحقق. الفرما الفرما مدينة مصرية قديمة على البحر المتوسط، بالقرب من بورسعيد الحالية، كانت قبل حفر قناة السويس من أشهر المدن المصرية، لأن بضائع الهند كانت تنقل من السويس الواقعة على البحر الأحمر إلى الفرما لكى تقوم السفن بنقلها مرة أخرى إلى أوروبا. وكانت هذه المدينة فى العصور القديمة تقع على مصب أحد فروع النيل التى اندثرت، وهو الفرع البيلوزى. وقد اندثرت الآن هى الأخرى، وحلت محلها مدينة بور سعيد.. هاهو يوسف النجار يصل إلى المدينة جاراً حماره الذى يحمل العذراء وولدها. لتكون هذه المدينة من المحطات الرئيسية فى رحلة العائلة المقدسة. المطرية توغلت العائلة المقدسة فى أرض مصر حتى وصلت إلى المطرية، التى تتبع حالياً محافظة القاهرة، ويسمى الموقع الذى استقرت به الآن «أرض النعام». توقف يوسف بأسرته الصغيرة تحت ظل شجرة، فسميت باسم «شجرة مريم»، وسنروى قصتها بعد قليل. كانت العذراء تريد غسل ثياب الطفل المقدس. فسارت إلى بئر هناك، أخذت بعض الماء وجلست لتغسل، بعد أن انتهت قامت بإلقاء الماء، فكان الماء بشير الخير والبركة، وكان الناس يزرعون حول هذه البئر نباتاً يسمى البلّسان، كان المسيحيون فى العصور الوسطى يضعونه فى ماء التعميد، ويعتقدون أن التعميد لا يصح دونه، لذلك كان هذا النبات بعد جمعه ومعالجته يوضع فى الخزانة السلطانية، ولا يصرف بغير أمر السلطان، ويرسل ملوك أوروبا لشرائه بالثمن الغالي. أما الأهالى فكانوا يعتقدون أنه يشفى من الأمراض، ويسمونه البلسم. وظل هذا النبات يزرع حتى العصر المملوكى ثم انقطع من مصر. أما الشجرة فقد سقطت أكثر من مرة بفعل الزمن، والشجرة الموجودة الآن زرعت عام 1906، فى عصر الخديوى عباس حلمى الثاني، وبعد ستين عاماً، وفى عهد الرئيس جمال عبد الناصر، اعتبرت الشجرة أثراً. وتوجد الآن استراحة بجوار الشجرة، وهذه الاستراحة لها قصة تستحق أن تروى. كان وزير الأوقاف بعد ثورة يوليو هو الشيخ أحمد حسن الباقورى، وهو ابن ثورة 19، ويعرف أن الدين لله والوطن للجميع، وذات يوم جاءه من يقول له: - يامعالى الوزير، إن الزوار الذين يزورون شجرة مريم لا يجدون مكاناً يستريحون فيه، ألا يمكن أن ندبر لهم مكانا لإقامة استراحة مناسبة؟ - لم لا؟ ابحثوا لى عن ملكية الأرض المجاورة للشجرة وبحثوا، ووجدوا أن الأرض مملوكة لوزارة الأوقاف، واتخذ الشيخ الرائع قراره: تخصص قطعة الأرض المجاورة للشجرة لتكون استراحة لزوارها دون مقابل. هدية للأخوة المسيحيين. وأقيمت الاستراحة، وهى شاهد حتى الآن على عمق الوحدة الوطنية بين المسلمين وأشقائهم المسيحيين. مصر القديمة سارت العائلة المقدسة طويلاً. أخيراً وصلت لمصر القديمة، فى المنطقة المجاورة للكنيسة المعلقة. بجوار حصن بابليون الذى كان المقوقس يتخذه مقراً له. استقرت فى هذه المنطقة بعض الوقت. وهناك أقيمت أكثر من كنيسة باسم السيدة العذراء، ومنها الكنيسة المعلقة التى أقيمت فوق أسوار حصن بابليون. جبل الطير وصلت العائلة المقدسة إلى محافظة المنيا الحالية. حطت رحالها فى أكثر من مكان، ومن هذه الأماكن: جبل الطير. وقد بنت الأميرة هيلانة أم الملك قسطنطين ديرا فى هذا المكان، لأن العائلة المقدسة مرت به. الدير المحرق كانت أسيوط هى آخر محطات العائلة المقدسة على أرض مصر. اختار يوسف النجار مغارة فى بطن الجبل، جبل درنكة، وهى موجودة إلى الآن، واستقر بها مع أسرته. ذات ليلة جاءه فى المنام ملاك الرب. قال له يوسف مرحباً: أهلاً بملاك الرب. - قم يا يوسف. انهض. - إلى أين؟ - قم وخذ الصبى وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فرح يوسف. أيقظ العذراء المباركة. أخذها هى وولدها وبدأوا رحلة العودة. وبقيت الرحلة إلى مصر هى سر نجاة المسيح من بطش هيرودس. كم بقيت العائلة المقدسة فى مصر؟ يرى الباحثون أن رحلة العائلة المقدسة استمرت بين ستة أشهر وعامين، ويرجح كثيرون أن مدتها كانت عاماً واحداً كاملاً، ويدللون على هذا بتاريخ وفاة هيرودس. وفى كل الأحوال فإن ما يهمنا أن مصر كانت الحضن الآمن الذى أوى إليه المسيح، وهذا شرف عظيم خصها به الإله جل وعلا. دامت مصر حضنا آمنا لكل الباحثين عن الأمن والأمان على مر الزمان.