للموت قدسية خاصة به فهو حدث جلل، فرحلة الانتقال إلى العالم الآخر دائما ما تكون فكرة تثير القلق والخوف عند الكثيرون منذ القدم ولهذا ارتبط بالموت الكثير من المعتقدات والتي اختلفت من حضارة إلى أخرى ومن ثقافة إلى ثقافة مختلفة ومن شعب إلى آخر ولكن ما جمعهم جميعا رغم اختلاف المعتقدات هو قدسية الموت تلك الرحلة المهيبة التي تقوم بها الروح إلى العالم الآخر. لحظة فراق من تحب ليست ككل اللحظات هي اللقاء الأخير والوداع النهائي هي لحظة تتجسد فيها كل الحزن على الفراق وكل الألم على عدم القدرة على استكمال بناء الذكريات والأحداث فكل لحظات الضحك والحديث والوجع والحزن أصبحت ماضي منها ما اكتمل وانتهى ومنها ما ظل ناقص يحتاج للاستكمال كل هذه المشاعر والأفكار تأتي في لحظة الموت ووداع من تحب لينتقل إلى رحلته الأخيرة على أمل لقاء آخر في الحياة الأخرى ولكن مع قبيلة " التوراجا" فالأمر مختلف. في قبيلة التوراجا اللقاء مستمر والموت لا ينتهي مع لحظة الدفن والحديث مازال له بقية والذكريات لا تنتهي فالميت مازال في منزله والرحلة لا تكتمل إلى العالم الآخر إلا بعد تهيئة العائلة وجمع المال الازم لحفل الوداع العظيم اللحظة الأهم في الحياة وبعدها يتم الدفن ولكن إذا كنت تعتقد أنه مع الدفن يتم الوداع فأنت على خطأ ففي كل عام يتم نبش القبور في احتفالية للموتى لتغيير ملابسهم وتنظيفهم لتستمر حياتهم ولكن في هذه المرة ليست في العالم الآخر بل في تماثيلهم الخشبية. وبحسب موقع " npr" فإن شعب "توراجا" الواقع في جنوب سولاويزي في إندونيسيا يمتلكون رحلة مختلفة للعالم الآخر تبدأ من تجميد الموتى لسنوات في منازلهم مع تقديم وجبات الطعام لهم فهم مازالوا في حالة المرض المخدر وتستمر حتى تجميع مصاريف الجنازة والتي تتكلف المئات من القرابين حتى الدفن والذي لا يعد المثوى الأخير لهم بل هو سكن مؤقت. فالمعتقدات التقليدية الخاصة بالموت لا تزال سائدة في أفكار هذه القبيلة التي تعيش وسط المناطق الداخلية الجبلية لسولاويزي والتلال الخضراء وحقول الأرز الخصبة وبقع من الغابات الكثيفة وتبدأ هذه المعتقدات مع لحظة وفاة الشخص والذي يطلقون عليها فترة "المرض" حيث يتم حقن الشخص المتوفي بمادة الفورمالديهايد حتى تمنع الجثة من التحلل ويظل الشخص في منزله بغرفته لعدة سنوات أو شهور يقومون برعايتها وتغيير ملابسها وتقديم الطعام لها مما يأكلوه ويتحدثون معها. فمن الممكن أن تدخل إحدى منازل التوراجان ويعرفونك على الجد الأكبر وهو يرتدي ملابسه الأنيقة ونظاراته المميزة فتظن انه على قيد الحياة ولكن عدم تفاعله معك يجعلك تتوجه بالسؤال عن السبب لتكون الإجابة أنه متوفي منذ عشرات السنين أو الشهور وبقائه في منزله لسبب هام وهو عدم الانتهاء من استعدادات الجنازة الخاصة به.. فلا تتعجب من السبب ففي ثقافة توراجان تعتبر جنازة الشخص أهم يوم في حياته فهي الرحلة التي يسافر فيها إلى مملكة الروح لذلك يجب أن يكون السفر مميز دون النظر إلى التكلفة فالمجتمع لا يحترم من يقوم بجنازة صغيرة. لهذا دائما ما تكون استعدادات الجنازات باهظة الثمن لدرجة أن الأجيال المتعاقبة ستثقل كاهلها بالديون المرهقة فأحداث الجنازات تستمر لمدة أسبوع وتشمل ذبح مئات الماشية واستقبال آلاف الضيوف وتبادل الهدايا والمال والطعام وصناعة تمثال "تاو تاو" كذكرى للمتوفي حيث يتم نحت صورة المتوفي في الخشب ووضعها على قبره لتتجسد روحه فيها. ولذلك يعتبر الموت أمر اقتصادي محوري فالعائلات تظل تدخر لسنوات حتى يتمكنوا من تحمل تكاليف الجنازة والتي قد تصل إلى 18 الف دولار للجنازات المتوسطة و73 ألف دولار للجنازات الكبيرة ليتحول الموت إلى إحدى سبل العيش لآلاف الأشخاص من عمال المزارع الذين يعتنون بالماشية القربانية الباهظة الثمن والمطاعم والفنادق لإقامة الضيوف والحرفيين الذين يصنعون تماثيل "تاو تاو" الخشبية التي تزين القبور. ووفقا بموقع "الجارديان" فإنه بعد الانتهاء من مراسم الجنازة تتم عملية الدفن والتي تختلف حسب عمر المتوفي فالاكبر سنا يتم دفنهم في قبور خاصة بهم يزينها تماثيلهم أما الأطفال فيتم دفنهم في حفرة منحوتة من جذع شجرة اعتقادا بان الطفل يكبر ويعيش مع الشجرة فكلما تنمو ينمو معها الطفل ولكن هذه ليست نهاية الرحلة فللقصة بقية ففي شهر اغسطس من كل عام يتم استخراج الموتى من القبور للاحتفال بهم وإظهار الاحترام لهم في احتفال "مانيني/ رعاية الأجداد". حيث يتم تغيير ملابسهم وتنظيفهم من الحشرات والطفيليات والتصوير معهم والسير بهم وهم يرتدون ملابسهم الجديدة في القرية احتراما لهم وقضاء يوم مع العائلة والأحفاد والأبناء وبعدها يتم دفنهم مرة أخرى في قبورهم ومع الوقت تحول هذا الاحتفال إلى موسم سياحي لهذه القبيلة لمشاهدة هذا الحدث الغريب.