علاقة الفلاح بالحكومة في بلدنا...قديمة وفريدة..تمتد لأعماق تاريخنا القديم..منذ أيام الفلاح الفصيح والملك الفرعون... الفلاح يتشكك في الحكومة ويخشاها، لكنه أول من يؤيدها، وشعاره اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش، يقف أمام لجان الانتخابات ليصوت لمرشحيها وهو لا يتلقي منها سوي الفتات. والحكومة تري الفلاح فريسة سهلة طيعة، يدفع الضرائب ويتحمل التجارب وينفذ التعليمات، فهي أدري بمصلحته، وأقدر علي الوفاء بها، وما عليه سوي سماع الكلام. هي علاقة معقدة تحمل الشئ ونقيضه، مشاكسة وخصام،غرام وانتقام، لكن لا غني لأحدهما عن الآخر، في النهاية هم اصدقاء وحبايب ومن يدخل بينهما خاسر وينوبه تمزيق هدومه. الكثير يرونها علاقة ابوية تربط بين مانح ومتلقٍ، طالب ومستجيب، لكنها فقدت مبررات وجودها تحت وطأة ندرة الموارد المائية في ازمة المياه الحالية يجب ان تتغير تلك العلاقة، لا الدولة تستطيع ان تظل ابا يعطي بلا حساب، ولا الفلاح بإمكانه ان يستمر ابنا مدللا يطلب فيجاب. العلاقة الأبوية انتهت، ومطلوب من الدولة وضع قواعد جديدة لتلك العلاقة لتتواءم مع الظروف المستجدة، الناتجة من الانتقال من عصر الوفرة إلي عصر الندرة، ومن الحياة تحت مظلة الأمن المائي إلي الحياة تحت تهديد المخاطر المائية. حاليا، الجهاز التنفيذي للدولة هو من يدير المياه بشكل منفرد، مثلما ظل يفعل خلال المائة والخمسين عاما الماضية منذ عهد محمد علي، هو الذي يعرف بالضبط مخزون بحيرة ناصر من المياه، وتقديرات الفيضان القادم إليها، وهو من يقوم بصيانة وتطهير المجاري المائية ثم يجمع تكاليفها من المزارعين، (وربما لو قام بالصيانة المزارعون أنفسهم لكانت التكلفة أقل). وهو من يضع جدول توزيع المياه مقسما علي المواسم الزراعية، وهو من يحدد المساحات المسموح بزراعتها أرزا والموجودة في ثماني محافظات بالدلتا المصرية (لماذا ثمانٍ فقط؟). وحينها فقط يتم اخطار المزارعين بالالتزام بتلك المساحات المقررة بدون شراكة حقيقية تضع التزاما قويا علي المزارعين وتستظل برأيهم في امر لا يجب ان ينفرد به جهاز واحد من أجهزة الدولة. لذلك تكون النتيجة المنطقية لتهميش دور المزارعين، هو إطلاق يدهم في التوسع في مساحات الأرز، ثم تبذل مجهودات أكبر في تطبيق الغرامات وحرق المشاتل. لا أريد ان اتوقف عند مجرد لوم الفلاح المصري علي قيامه بزراعة أي محصول، مادام لم يتوافر له محصول بديل مجزٍ، يصرفه عن استهلاك كميات كبيرة من المياه. لكنني سأتساءل عن درجة اشراك هذا المزارع في ادارة وتخطيط الموارد المائية المحدودة لدينا والتي ستنقص مع الوقت. وأنا هنا اتحدث عن الشراكة الفاعلة لتحقيق مصلحة عامة مشتركة، في إطار مساواة في المسئوليات والواجبات بين ندين، لا علاقة ابوة ولا بنوة ولا حتي تبني. ومنذ أكثر من 25 عاما بدأت بشكل رسمي تجارب اشراك المزارعين في ادارة المياه، لدينا الآن خمسة آلاف رابطة، وعدة مئات من مجالس للمياه، ولم نشعر بوجودهم في مواجهة ازمة المياه الحالية.ان تلك الروابط تحتاج مجهودا كبيرا لتنتقل من مرحلة الوجود الرقمي إلي الوجود الفاعل والمتعلق بتمثيل حقيقي لمصالح المزارعين المائية، أكثرمن ارتباطها بالوفاء بشروط المنح الدولية التي كانت تشترط مشاركة المزارعين في اي مشروع تقوم بتمويله. الشراكة الفاعلة تتضمن وجودا حقيقيا للفلاح في لجان تحديد مساحات الأرز، ووضع التركيب المحصولي علي كل الترع الفرعية في مصر والتي يقل زمامها عن الألف فدان، والإشراف علي عميات التطهير والصيانة لها. وهذا كله لن يتحقق إلا اذا كانت هناك ارادة حقيقية من الدولة بالتنازل طواعية عن جزء من سلطاتها للفلاح ليشارك معها في إدارة المياه، ويتحمل عن قناعة أعباء هذه الشراكة التي ستفضي في النهاية إلي نتيجة أفضل للطرفين؛ الحكومة والفلاح. كاتب المقال : رئيس قطاع بوزارة الموارد المائية والري