لا يسع بصير إلاَّ أن يقر بأن مفاهيم الحق والواجب قد أصابها لدينا قصور، أو خلل إن شئنا الدقة مع الصراحة، وأن هذا الخلل قد تعاظم للأسف في الفترة الأخيرة، التي كان يرجي مما وقع فيها من أحداث لم تقتصر فقط علي يناير 2011، أو يونيو / يوليو 2013، فقد حفلت هذه السنوات بالكثير من العبر ومن الدروس التي كان يتعين أن تعمق فهمنا والتزامنا بالواجب، أكثر مما تحفزنا علي المعاجلة إلي الحقوق أو ما يعتقد كل منّا أنه حقه الذي لا يقبل الابطاء أو التسويف في إقرار الآخرين به، والمبادرة إلي اعطائه إياه ! والغريب أن يقع هذا الاختلال في بوصلة الواجبات والحقوق، رغم عراقة مصر التي ضرب فيها الفلاح المصري أروع الأمثلة علي القيام بالواجب في صمت وصبر، ورغم أنه لا يوجد إنسان متحضر إلاّ ولديه خريطة أو حصر أو قائمة بواجباته العامة والخاصة أو الشخصية، وربما بجدول داخلي لأولوية هذه الواجبات وأفضلياتها وأكثرها لزوماً أو أرخاها ترتيباً، وما يتعين التعجيل به منها وما يقبل الإرجاء لأمدٍ قصير أو طويل. ولكن هل هذه التضاريس كلها اختيارات وتحديدات آدمية مصدرها فقط ما يقدره الشخص ويريده ويحدده، أم أن تضاريس هذه الواجبات ليست عملاً بشرياً صرفاً، وأن منها ما ينبع عن مصادر علوية أو دينية، أو عن اعتبارات ودواع اجتماعية.. حدود القدرة علي التغيير الذي لا خلاف عليه أن قدرة البشر علي تغيير خريطة الحقوق ومن ثم الواجبات ليست مطلقة، بل لها حد بعضه علوي إلهي يجب أن نقف عنده، يصدق هذا علي الجماعات مثلما يصدق علي الأفراد.. بيد أن هذا ليس موضع اتفاق بين جميع الناس أو في كل الأماكن أو الأزمان والعصور.. ولكن الذي لا خلاف عليه أيضا أن اجتهاد أهل كل زمان أو عصر، أو فئة أو مكان، واختلافهم المفترض والحاصل في التفاصيل، لا ينفي أن هذا الحد بمعناه العام قائم وموجود بصورة أو بأخري في كل زمان ومكان وظرف كحقيقةٍ كلية مستمرة بها تبقي حياة البشر بصورة عامة موضوعية داخل إطار من العدل والخير والحق في تيار الزمن الذي هو في حركة وصيرورة دائمة. تغيرات وتساؤلات وهذا المبدأ لم يعد له قبول عام علي مستوي العالم، بل رفضته أوروبا فكريّاً في تحولها التدريجي من منتصف القرن التاسع عشر إلي العلمانية أو اللا دينية والإنكار المتطرف للدين. علي أن الملاحظ أن خفوت سلطات الدين في أوروبا بعد أن ساد فيها في العصر الوسيط بغير منازع، قد تزامن مع تصاعد وازدياد الثراء الذي أدت إليه قفزات التجارة الخارجية والبحرية بعد الحرب الصليبية الأولي، واتساع نفوذ المدن البحرية الإيطالية، ونشاط أساطيلها وانتشار مراكز المال والأعمال التي أَطْلَقَت مع هذه التغيرات أشواق الناس للمكاسب والأرباح والأموال، وللترف والتنعم والكماليات، وطفق ذلك يتسع ويزداد مع الكشوف الجغرافية والانتشار الزاحف إلي ثروات العالم الجديد. تزامن مع هذه المتغيرات، شيوع الترف، والاقبال علي الأبهة والعناية بالزخارف التي طالت حتي دور العبادة، ولكن في إهتمام ظاهري لم يعكس متانة في التدين أو عناية حقيقية بالدين، وواكب ذلك الاندفاع في الإقبال علي الاقتناء، والاستمتاع بالملذّات، وعشق المغامرات، والجرأة علي كل شيء حتي انطبع في ذهن الأثرياء أنهم يمتلكون كل شيء، ويستغنون بما يمتلكونه عن كل شيء، وفشا الإعجاب بالذات، وبات السؤال المطروح بشدة : هل هناك تلازم بين الغني والثروة وبين ضعف التدين ؟ هل تتداخل الثروة في خريطة الحق والواجب ؟! بعبارة أخري، هل تتداخل الثروة في تضاريس خريطة الحقوق والواجبات ؟ لا جدال أن نوعية وجداول أولويّات الحقوق والواجبات تتأثر بالضرورة بأوضاع الغني واليسار، والفقر والحاجة.. فما يتطلع إليه الغني ويرتاح إليه ويطلبه ويسعي إليه، يختلف بالضرورة نوعا ًوكيفاً وكمّاً عمّا يتمنّاه الفقير والمحتاج ويرجوه، فهناك فارق كبير بين الحاجة وبين الاستغناء، والحاجة والاستغناء كلاهما نسبي، في الكَم والنوع والكيف. وربما هذا هو الذي أثار ويثير شبهة أثر الاستغناء الناجم عن الغني في صفحة وجدان أصحاب الثروات، يكرس هذه الشبهة ما قد يجلبه الثراء من ثقة قد تصل إلي حد الغرور في قدرة الإمكانيات علي تجاوز كل شيء، وعلي تحقيق كل ما يصبو إليه صاحب الثروة. ولا مراء في أن هذا اكثر ظهورًا ووضوحا في الماديات التي يكون الحصول عليها رهيناً بما في قبضة الأغنياء من أموال، وقد تتسع صورة هذه الماديات ونوالها حتي تكاد تستغرق معظم صفحة الصورة، ومع ذلك يعرف الأغنياء قبل الفقراء أن هناك من المطالب والأماني والحاجات ما يستعصي الحصول عليه بالأموال مهما إزدادت وكثرت. ليست حصاد ثروة ! ذلك أن المواهب والملكات ليست ولا يمكن أن تكون حصاد ثروة، وكذلك الصحة والأمان النفسي، وعقلاء الأغنياء يدركون هذه الحقيقة حتي وهم يسعون للخروج من ربقتها، ولذلك لا يمكن التسليم بقالة مطلقة إن الثروة والتدين نقيضان لا يجتمعان. فهناك أغنياء لم يلفتهم ثراؤهم عن الإيمان بالله وتصاريف ما يقدره، ولا عن خريطة واجباتهم التي يسخِّرون ويوظفون فيها ثرواتهم لإعطاء الجانب الإنساني حقه من الرعاية والكفالة، وأمثال هؤلاء احتفظوا لذلك بالتوازن في تضاريس خريطة حقوقهم وواجباتهم. بينما هناك فقر قد يورث ما يسمي بالكفر أحيانا، حتي قيل في بعض الأمثال الدارجة إن الجوع كافر، لأنه مع الحاجة الشديدة ووقع الجوع المر الموجع الممض يذهب أمان النفس أشتاتا، ويورثها شططًا قد يؤدي بها إلي الكفر أو ما يشبه الكفر، ويؤثر بالضرورة علي تضاريس خريطة الحقوق والواجبات، وقد يبرر المتحلل من الواجب إنسلاخه منه بأن الدنيا لم تنصفه، والمجتمع لا يرعي حقوقه ! الحدود البشرية واللا بشرية ! ربما يبدو من ذلك حقيقة أن تضاريس هذه الخريطة ليست في كل الأحوال صناعة بشرية. نعم تتدخل فيها إرادة وسلوك وأفعال وأعمال وخطط ومساعي البشر، ولكن لها حدوداً لا يملكها البشر ومن المحال أن يمتلكوها. وهذه الحدود اللا بشرية هي التي تطامن من غلواء ملاك الثروة والممسكين بمقاليد السلطة والقوة، وتدعو العقلاء إلي التخفيف من غرور ما يمتلكونه أو يقدرون أو يتصورون أنهم يقدرون عليه، وتكفل لدي المجتمعات السوية جسوراً واجبة تخفف من ويلات الفقر وتوازن الحياة لتستقيم بلا فتن تعصف بالأخضر واليابس ! علي أن الحدود البشرية هي الأحوج إلي الفهم والاتباع والالتزام، وقودها أن يدرك الفرد أنه جزء من المجموع، وأن علاقته بالمجموع علاقة تبادلية وأنه علي قدر ما يعطيه للمجتمع من القيام بدوره والالتزام بواجباته والإخلاص فيها والجدية في أدائها، علي قدر ما سوف ينعكس عليه ذلك من ثراء المجموع وقدرته بثروته المادية والأدبية علي أن يوفر لأفراده الذين أمدوه في الواقع بمقوماته ما يوفر لهم حقوقهم وينهض بآمالهم واحتياجاتهم، ويجعل حياتهم العامة والخاصة أكثر خصوبةً وكفايةً وثراءً. مثالب سطوة المال وخلاص الإرادة ! ليس من اليسير، مع سطوة وارتفاع شأن المال، تجاهل تأثيره علي جدول القيم، فالمال صار علي رأس القيم فعلاً وواقعاً، وأخذ المال يحتل معظم تفكير وأنشطة الناس، ولوحظ تأثيره علي هبوط الخامة البشرية، وهذه الخامة الإنسانية هي قبلة الأديان، لذلك لم يتوقف الصراع قط بين الأديان وبين المال علي نفوس الناس وأرواحهم، وأطل تساؤل يقول : هل يمكن أن تصبح الأشياء المادية أغلي وأثمن من الآدمي ذاته في مجتمعات الثروة. إن اتصال الأديان بالمال اتصال انتفاع واستخدام أمر حتمي تفرضه ضرورات كثيرة، رأينا هذا ونراه في مظاهر الفخامة التي تسللت إلي دور العبادة ذاتها ، وحتي صار بذل المال من أجل القربات الدينية عادة تلازم التعبير عن التدين والورع، بينما لم يعد متاحاً رد أهل الأديان إلي بساطة الحياة الأولي التي كان عليها الأوائل، برغم إعجاب المتدينين بهذه الحياة، وتنويههم بها وابداء الأشواق (الظاهرة) بالعودة إليها. وها هنا أكبر التحديات التي تواجه هذا العصر عصرنا الذي صار نهباً لانقسام خطير ومؤسف، لا يلتفت إلي أن واحة الرب تبارك وتعالي لا تفرق بين غني وفقير، أو بين قصر وكوخ، وأن الجميع آتيه يوم القيامة فرداً ! يقول سبحانه وتعالي في كتابه الحكيم : « وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» ( مريم 95 ). وهذا التنبيه القرآني فيه ايقاظ «للميزان» الفردي الذي يجب أن يميز ويرعي، أن حساب الواجب وحساب الحق حسابان متلازمان، أشبه إِنْ جاز التعبير بميزان الأرباح والخسائر، ويتصل بهذا « الميزان » أيضا شخصية المسئولية، وهي ملمح قرآني بالغ الحكمة، فالإنسان مسئول عما يفعل، وعما يترك ويدع، وهذا وذاك مردود إلي « الواجب » الذي يأتي به إلي ربه فردًا، بلا نصير من مال أو منصب أو جاه أو عزوة أو حزب أو سلطان، وبلا وساطة أو شفاعة كهان أو أحبار أو رهبان.. وزن الإنسان في الدنيا أيضا لا يبتعد عن هذا « الميزان »، مكانته وقيمته بما يقدمه لا بما يأخذه، فخاره الحقيقي في الواجب الذي نهض به، لا في تلال ثروة أو أرصدة بنوك، وفي الخير الذي قدمه والعون الذي أزجاه، لا في صفحات الانسلاخ من الواجب، أو التجبر والطغيان . ظني أن ميزان الدنيا لا يبتعد كثيرًا عن ميزان السماء !