نعم إن اللسان قد يكون - وقد كان - سبباً في خراب بيوت، وهلاك أقوام، وحروب وفتن، وقطيعة وهجران لأن الكلام هو وسيلة الاتصال المباشر بين الناس، وهو الجسر الذي تعبر عليه أفكارهم جيئةً وذهاباً، وهو وسيلة الإقناع والاقتناع، وفوق ذلك كله فقد كان معجزة النبي الخاتم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. ولما للكلام من أهميةٍ وقيمةٍ ووزنٍ ومقدار، ولما له من أثرٍ وتأثير، فقد علّمنا الإسلام الرقة والحلم في القول واللين فيه، حتي حينما أرسل الله تعالي موسي وهارون إلي الطاغية فرعون، أمرهما أن يقولا له قولاً ليناً ( فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشي ) والله تبارك وتعالي يقول: (وقولوا للناس حسناً)، ورسولنا الكريم عليه أفضل صلاةٍ وأتمّ تسليم، وصف ربه وخالقه بأنه رفيق يحب الرفق في الأمر كله.. كما جاء في الحديث المتفق عليه..وبيّن عليه الصلاة والسلام في حديث آخر رواه مسلم أنه يعطي علي اللين والتؤدة ما لا يعطي علي الشدة والمشقة ( يعطي علي الرفق ما لا يعطي علي العنف ) وأن من حُرِمَ هذا الخلق الكريم فقد حُرِمَ الخير كله، أو ليس الحلم سيد الأخلاق !؟ ولأهمية الكلام فقد أمرنا الإسلام أن نكون واضحين في كلامنا، فإذا لم يكن بيّناً كررناه وسهلناه حتي يفهمه المخاطب، وقد أمرنا الدين أن نخاطب الناس علي قدر عقولهم، بدون ذلك التعالي المؤدي إلي نفورهم. وقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام بأن كلامه كان فصلاً ( بيناً ظاهراً ) يفهمه كل من يسمعه. كما رواه أبو داود. ومن الآداب التي يحضُّ عليها الدين حسن الاستماع والإصغاء إلي الآخر، مالم يكن حديثه لغواً أو حراماً، ذلك أن الإنصات في أدبٍ وتواضع ظاهر لمحدثك، حتي وإن كنت قد سمعت حديثه أو مثله من قبل، يؤدي إلي المحبة والوئام. ولا أدري ماذا أصاب أهل الكلام هذه الأيام، لم يعودوا يسمعون لأحد سوي أنفسهم، ولربما يتحدثون في حضرة ضيوفهم أكثر من الضيوف أنفسهم !! وصاروا يتكلمون في كل شئ وأي شئ. وإن من أدب الكلام في الإسلام، أن يكون الكلام مفيداً ومسئولاً، يقول تعالي ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ويقول الحبيب المصطفي عليه صلوات ربي وملائكته وسلام الناس أجمعين : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » وقال الإمام النووي: هذا الحديث صريح في أنه ينبغي ألا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً، وظهرت مصلحته، ومتي شكّ في عدم ظهور مصلحةٍ فلا يتكلم. وأمر اللسان عظيم وخطير، وقد سأل معاذٌ رسول الله صلي الله عليه وسلم : « يا رسول الله إنّا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟. فقال الحبيب عليه الصلاة والسلام « يا معاذ، وهل يكّب الناس في النار علي وجوههم إلا حصائد ألسنتهم «. يا سبحان الله وكأن كثيراً منا اليوم ممن أوقعتهم ألسنتهم في مرمي نيران البشر في هذه الدنيا، والله أعلم بهم في الآخرة، كأنهم لم يقرأوا أو يسمعوا بهذاالحديث أبداً ّ!! نعم إن اللسان قد يكون - وقد كان - سبباً في خراب بيوت، وهلاك أقوام، وحروب وفتن، وقطيعة وهجران. وقد سُئل المصطفي عليه الصلاة والسلام : ( أي المسلمين أفضل ؟ فقال : من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ). وفي أدب الأمثال والحكم يقولون : « وخز اللسان أحدُّ من وخز السنان «. أولم تقل العرب : « قلب الأحمق في لسانه ولسان العاقل في قلبه «. ولقد قال قائل : « الفكر لا يُحَدُّ، واللسان لا يصمت، والجوارح لا تسكن، فإن لم تشغلها بالعظائم، اشتغلت بالصغائر، وإن لم تُعمِلها في الخير عَمِلَت في الشر، فعلّمها التحليق تكره الإسفاف، وعرّفها العز تنفر من المذلة». . وقال الإمام علي كرّم الله وجهه : « الإيمان معرفةٌ بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالأركان «. وهكذا كلما كان القلب صغيراً ازداد اللسان طولاً، وقد نستدل علي مساوئنا من لسان غيرنا، فلا نقع فيما وقعوا فيه. وعلينا أن نعرف أن الكلمة إذا خرجت من القلب دخلت القلوب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان. ويقول الشاعر : لا خير في ود إمرئٍ متقلب حلو اللسان وقلبه يتقلّب يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلب نعم إنه اللسان، سيفٌ قاطع لا يؤمنُ حدّه، والكلام سهم نافذ لا يُؤمنُ رده. وكم من الكلام تمني أصحابه الخرَسَ علي أن يقولوه، ولكن حقاً من الخير أن تزل قدم الإنسان بدلاً من لسانه. ولكنه أيضاً اللسان الذي يقول عنه الإسكندر المقدوني : أعطوني لسان خطيبٍ واحد وخذوا مني ألف مقاتل. أما الإمام الشافعي يرحمه الله فيقول محذراً : كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعانُ اللهم اكفنا شرّ ألسنتنا وأنطقها بقدرتك حقاً وصدقاً وخيراً ويقيناً.