نعم لدعوة الرئيس السيسى إلى حوار مع الشباب فى خطابه أمام البرلمان، فلا يصح لدولة أن تخاصم مجتمعها، والمجتمع المصرى شاب بطبع تكوينه السكانى، والشباب ليسوا فئة محصورة بسن معينة، وأكثر من سبعين بالمئة من المصريين تحت سن الأربعين، وهو ما يعنى أن آلام الشباب هى آلام المجتمع ذاته، وأن إحباط الشباب هو إحباط المجتمع، وإن بصورة أكثر عفوية وصخبا وحضورا. وقد اعترف الرئيس غير مرة بفشل محاولات التواصل مع الشباب، وهو كلام فى محله تماما، وإن كانت التفسيرات عندنا تختلف، فليس المطلوب من الدولة استقطاب الشباب، والشباب بطبعه عصى على الانقياد، وينفر من الوصاية، ويغضب ويسخط بطبع مجتمعه المأزوم، ولا يصدق ولا يقتنع بسهولة، فلا أحد يستطيع الإقناع إلا بما هو مقنع وملموس، وليس بالنوايا وحدها يقتنع الناس ولا الشباب، ولا بإحاطة الرئيس فى لقاءاته بزرافات من الشباب، لا تعرف لغالبهم إسهاما فى الحياة العامة، ولا تخطئ العين طبيعة مواردهم، فبينهم عدد كبير من «فرافير» الجامعة الأمريكية، وآخرون من «عصافير» توردها الأجهزة الأمنية فى العادة، إضافة إلى عدد لا بأس به من شباب البلاستيك وشباب الزينة، ممن ينشئون لهم أحزابا على طريقة المقاولات المدفوعة، أو يفترضون فيهم حس قيادة لا دليل واحد عليها، وأمثال هؤلاء قد يصلحون لدواعى ووظائف العلاقات العامة، وحسن الاستقبال الفندقى لا السياسى، وليس كجسر تواصل مع الشباب المصرى بإحباطاته وأحزانه وأشواقه، فهم جماعات تنفير لا تبشير، ولا يضيفون لصورة الرئاسة وجها مقنعا ولا شبه مقنع، بل قد يكونون من صناع المصائب والفضائح، وعلى طريقة توريط الرئيس فى تكريم شاب قيل إنه عبقرى زمانه، ثم تبين أنه أفاق، قبضت عليه الشرطة لاحقا بتهمة النصب على عباد الله، والإتجار بصورة جمعته مع الرئيس، وقد تكررت الحوادث المماثلة، ودون اتخاذ إجراء حاسم ينهى المهزلة، ويوقف الإساءات العبثية لمقام الرئاسة، ودون معرفة السبب على وجه اليقين، وهل هو الطيبة الزائدة من الرئيس ؟، أم هى الغفلة الزائدة من المعاونين ؟، أم أننا بصدد أدوار غامضة لمستشارين وأجهزة تلعب فى الظلام ؟!. ما علينا، المهم أن الحوار مع الشباب له سبيل آخر، ليس باستبدال «الفرافير» و»العصافير» من حول الرئيس، ولا بلعبة كراسى موسيقية، تستبدل شباب الزينة، ولا بإحلال أدوار لأجهزة محل أخرى، بل باستبدال السياسات والاختيارات، فقد لا يستطيع منصف أن ينكر على الرئيس إنجازاته، وهى ظاهرة ناطقة فى سياسته الخارجية، وفى تقليص التبعية الموروثة للأمريكيين، وتعظيم قوة الجيش، ومشروع تنمية قناة السويس، وشبكة الطرق والمدن الكبرى الجديدة، والتوسع الزراعى، وبناء محطة «الضبعة» النووية، وغيرها من الانجازات الموحية بإمكانية خلق مصر جديدة ناهضة عفية، والتى تتم غالبا بإشراف وإدارة هيئات الجيش، وتوظف مئات الشركات المدنية، وتوفر فرص عمل لنحو مليون مهندس وفنى وعامل مدنى، وفى ورشة هائلة غير مسبوقة فى إيقاعها المتسارع، لكن إنجاز الرئيس على وضوحه، لا يصاحبه انحياز اجتماعى قطعى لأغلبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى، بل تبدو السياسات والاختيارات منحازة للقلة المحظوظة، وتبقى الإنجازات معلقة بعيدة عن العين والقلب، ربما باستثناء اكتتاب قناة السويس، تحرمها اختيارات السياسة والاقتصاد من فرص التعبئة الشعبية الواسعة، وتترك المجتمع بغالبه غارقا فى أزمات الفقر والبطالة والمرض والبؤس، وتسد منافذ السياسة، وتفاقم القمع، مع تضخم سلطة الفساد، وهو ما يولد غضبا اجتماعيا وسياسيا تتوالى أماراته ومظاهره، يبرز فيه غضب الشباب بالذات، فهم عنوان لأغلبية المجتمع المصرى الشاب بحكم تكوينه السكانى. المطلوب إذن حوار ومصالحة مع الشباب، هو فى جوهره حوار ومصالحة مع المجتمع، وقد لا نقلل من وزن مبادرات الرئيس بالخصوص، ومن نوع منح قروض بفوائد مخفضة للشباب، أو تخصيص نسبة للشباب من وحدات الإسكان الاجتماعى، وهى خطوات محمودة، لكن البيروقراطية المتربصة تعوقها فى التطبيق، وقد تعدم جدواها فى اقتناع الشباب بحدوث تغيير ما، ثم أنها لا تغنى حتى فى حال التطبيق، عن مبادرات أخرى أكثر إلحاحا، وعن الضرورة القصوى لتصحيح المشهد كله، ووقف «الانحراف الفلولى» بمغزى تحرك الشعب المصرى فى ملحمة الثلاثين من يونيو، تماما كما جرى تصحيح «الانحراف الإخوانى» بحركة الثورة الأصلية فى 25 يناير، فلم يقم الشعب المصرى بثورته، ولم تتلاحق هباته الجماهيرية العظمى، لم تحدث الثورة لتحكم بعدها قوى الثورة المضادة، لم تحدث الثورة ليحكم الإخوان فيما مضى، أو ليسيطر الفلول، وعلى نحو ما يجرى الآن فى الحكومة والبرلمان وجهاز الدولة الفاسد، وهذه القضية هى «مربط الفرس» فى المشهد المصرى الراهن، والكرة فى ملعب الرئيس المنتخب بعد 30 يونيو، والمطلوب : ثورة تصحيح شاملة قبل فوات الأوان، جوهرها العدالة والحرية والكرامة والتصنيع وتكافؤ الفرص، وبما يفتح الطريق إلى قلب الشباب، ويكسب اقتناعهم الطوعى الحر، ويملك الرئيس السيسى مثلا أن يبدأ بتمكين عشرات الشباب المتفوقين المحرومين من حقوقهم فى تقلد وظائف السلك القضائى، وقد ظلت مشكلتهم معلقة لنحو ثلاثة أعوام إلى الآن، كما يملك الرئيس أن يستعمل صلاحياته فى تفكيك الاحتقان السياسى الزائد، وقد سبق له أن أصدر قرارات بإخلاء سبيل مئات الشباب المحبوسين، والمطلوب مبادرة أوسع نطاقا بكثير، يخلى بها سبيل عشرات الآلاف من الشباب المحتجزين فى غير تهم العنف والإرهاب المباشر، خاصة أن الرئيس اعترف مرات بوجود مظالم هائلة فى السجون السياسية. نعم يا سيادة الرئيس، إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وقرار واحد صحيح أفضل من ألف خطبة، وأبرك من مليون مناشدة على الهواء لضمائر الشباب المحبط المظلوم.